حسان محمد محمود |
أولاً: في توصيفه لدور الدين في السياسة وذعره (الأزلي) من أصولية الجماهير يقع أدونيس في مطبٍّ لطالما وقع فيه النخبيون، هو العجز عن الانتقال و الربط بين المجرد الذي يتقنون التحليق في فضاءاته و الملموس الذي ينأون بأنفسهم عن الخوض و التوغل في متاهاته.
يمكنني تشبيه ذلك بعالمٍ في مجال الهندسة الميكانيكية الذي ربما يملك القدرة على فتح آفاق معرفيةٍ ونظريةٍ جديدة في مجاله دون أن يمتلك ذات القدرة على إصلاح سيارته إن تعطلت.
الانتقال من العام إلى الخاص، من المجرد إلى الملموس، من التصورات و الانطباعات وحركة المفاهيم في الدماغ إلى الحقائق وحركتها في الواقع تحتاج مراناً وتدريباً على تقنيات تفصيلية و اتباع دورات تأهيلية لدى ورشة تصليح سيارات بالنسبة لعالم الهندسة المذكور ولدى السياسيين بالنسبة لأدونيس.
ثمة تطرف ومبالغة لدى أدونيس في تناول طرق و آليات حضور (المعرفي ـ الثقافي ـ الحضاري ـ الديني) في كلٍ من المشروع و السلوك السياسيين. ولن أتوغل أكثر في هذه النقطة المنهجية لأنني لا أريد أن يجرني أدونيس إلى المساحة التي يريد، أي مساحة النقاش في المجردات في لحظة تحتاج أكثر ما تحتاج إلى حوار بخصوص التقنيات العيانية الملموسة المباشرة الميدانية.
ثانياً: ينهي أدونيس رسالته بالتحذير من حربٍ أهليةٍ في سوريا، وأرى أن سبب اعتقاده بإمكانية حصول هذه الحرب يعود إلى افتقاده المهارات في التقنيات السياسية التي تحدثت عنها آنفاً، لن أطيل، وأقول بهذا الصدد:
تندلع الحرب الأهلية في أي بلد وتستمر (أركز: وتستمر) إن اجتمع نوعان من العوامل، الأول: داخلي لجهة توافر (المتقاتلين)، و الثاني: خارجي لجهة إمداد المتقاتلين بالغطاء السياسي و الدعم المادي اللازمين لاستمرار الحرب الأهلية.
وعلى فرض توافر ونضوج العوامل الداخلية لحرب أهلية في سوريا (و أشك في ذلك) فإنني أعتقد أن ذلك غير متوافر إقليمياً ودولياً، إذ ليس من مصلحة تركيا أن يكون أهم جارٍ لها على الإطلاق في حالة عدم استقرار (طول الحدود ـ ما يمكن أن يشكله عدم الاستقرار في سوريا من بيئة خصبة لتنامي مشكلاتها الداخلية مع بعض الأقليات فيها..).
كذلك الأمر بالنسبة للعدو الصهيوني، إذ برغم أنه يرغب على المستوى الإيديولوجي بتشكيل دول طائفية ودينية في المنطقة تعطيه المبرر التاريخي ليكون كياناً دينياً “يهودياً” إلا أنه من جهة أخرى (سياسية وليست إيديولوجية) لا يرغب بجوار مضطرب تترعرع فيه حركات أصولية، حتى لو تقاتلت فيما بينها ومع غيرها ستكون موحدة بتوجيه قدراتها العسكرية إلى (إسرائيل) للقيام بعمليات ضدها، كما تبين التجربة أنه حيث تكون الحكومة المركزية ضعيفة تزدهر حركات المقاومة الشعبية التي آلمت (إسرائيل) أكثر من الجيوش النظامية، و لا أظن أن من مصلحة إسرائيل ذلك.
ومصر كذلك، بل إن جوهر التغير الذي سوف يصيب السياسة الخارجية المصرية هو إعادة الاعتبار لبلاد الشام باعتبارها امتداداً لأمنها الوطني، بدليل ما تقدم عليه الآن من محاولات حذرة وخجولة لتطوير وتصحيح علاقتها مع جوارها الشامي (برغم أنها تمر في مرحلة انتقالية ولم تتبلور سياستها الخارجية جراء ذلك).
أيضاً مصالح اللاعبين الدوليين الحالية تتطلب (على الأقل الآن) وبسبب غموض الاتجاه الذي تسير فيه المنطقة بعد الثورات التي حصلت فيها إلى ضمان حدٍّ أدنى من الاستقرار الداخلي في كل بلدٍ من بلدانها ريثما ينقشع غبار هذه الثورات.
أكرر: الآن….وهذا لاينفي أن تتغير أولويات ومصالح اللاعبين الدوليين، خاصةً إذا كان اتجاه الحكومات التي تتمخض عنها الثورات في غير الاتجاه الذي يلبي مصالحها.
أخيراً: كل العرض الموجز السابق يستند إلى فرضية أن الشعب السوري معدوم الحيلة و الذكاء و الفعل و القوة الكفيلين بعدم الانزلاق إلى هاوية الحرب الأهلية، وعلى ما أعرف لم تنشب أي حرب أهلية في سوريا طيلة تاريخها الحديث بالرغم من توافر العديد من عوامل اندلاعها وفي أكثر من مفصل أو محطة.
هذا برأيي ” بعض ” التعفيس الذي ورد في رسالة أدونيس.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.