غالبا ما تحدث الانتقالات التاريخية الكبرى في حياة الشعوب عبر آليتين، إما عن طريق انعطافات حادة كالثورات والكوارث والحروب، وإما تتطور هذه الشعوب تدريجيا عبر تبني منهج وأفكار خلاقة ترسم للمجتمع خطواته اللاحقة بصورة مدروسة تتسم بالعقلانية والواقعية تقود تطور المجتمع إلى التقدم والازدهار.
وفي كلا الحالتين لا يمكن لهذه الانتقالات أن تحدث وحدها من دون تدخل العنصر البشري، كأفراد أو جماعات، للتأثير سلبا أو إيجابا في زخم تقدمها أو في تحديد منحنى اتجاهها.
وعليه لا تكمن قيمة الثورات الجوهرية فيها كواقعة وكذلك يسري الأمر على الأفكار الخلاقة ما لم تقترن بطبقة أو شريحة حاملة لأفكارها وقادرة على تحويلها إلى فعل وممارسات ومؤسسات تشكل بمجموعها فعل التغيير المنشود الذي من أجله قامت الثورات وقدمت التضحيات.
ومن المتوقع في خريطة الثورات العربية المتلاحقة، وعلى الرغم من أنها أحدثت هزات عنيفة في بنية المجتمعات العربية المتكلسة وبعثت الأمل في مستقبل هذه المجتمعات، أن يبقى فيها ما يثير القلق على ضوء خصوصية هذه الثورات وسرعة انبثاقها وكونها لم تنبع من رؤية سياسية مسبقة، مما يجعلها عرضة للركوب أو الانحراف أو ربما فريسة سهلة للثورة المضادة.
فالاستجابات المحدودة في قشرة وبنية الأنظمة السياسية البائدة تحققت تحت ضغط المظاهرات والانفعالات الشعبية وهي بطبيعتها تكون عفوية ووقتية خاضعة للمزاج العام وتوجهاته، لكن الأمر يتطلب أكثر من ذلك لإنجاز الانتقالات الجذرية في كافة مناحي الحياة بالاعتماد على شريحة متينة ذات صفة ديناميكية وتشكل بنية المجتمع الحقيقية وتمتد مجساتها في كافة قطاعات ومناحي الحياة، مثل هذه الشريحة وحدها قادرة على حمل أهداف هذه الثورات والمضي فعليا صوب تحقيق إزاحات محسوبة في إحداثيات المجتمع من النقطة (أ) إلى النقطة (ب).
خصائص وحدود الطبقة
يطلق على الطبقة المتوسطة في الأدب السياسي قاطرة المجتمع، ويقاس على مدى تطورها مستوى تقدم أي مجتمع أو تخلفه, ففي المجتمعات التي تكون فيها هذه الشريحة قوية ومتماسكة يمكن الجزم بأن المجتمع متماسك ويسير بعافية نحو الأمام بخطى ثابتة وعلى العكس من ذلك كما هو الحال في مجتمعاتنا العربية حيث تعاني هذه الطبقة من التهميش والإقصاء والإبعاد عن آلية صنع القرار، فإن هذه المجتمعات ستبقى تراوح مكانها وتدور في دوائر مغلقة.
ولأن الكثير من الأنظمة العربية وصلت إلى سدة الحكم إما بانقلابات وإما بثورات وإما بالوراثة، فإن هذه الطبقة بقيت محبوسة في قمقم هذه الأنظمة لم تتمكن يوما من التعبير عن نفسها أسوة ببقية دول ومجتمعات العالم التي نهضت عبر بروز هذه الطبقة والسماح لها من خلال التعبير عن إمكانياتها بتشكيل أحزاب تعبر عن آرائها التي هي آراء كثيرا ما تتسم بالعقلانية والموضوعية.
لا شك أن نقطة الضعف الرئيسية التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية مقارنة بالمجتمعات الأكثر استقرارا لم تكن يوما تتمثل في نقص الثروات أو غياب الهوية والتاريخ والثقافة، وإنما كان مأزقنا على الدوام في استمرار ذلك التغييب الكامل لأخطر وأهم شريحة حيوية ومنتجة في المجتمع وانسحاقها تماما وتشويه ملامحها ما بين طبقات العسكرتارية الثورية الحاكمة وما بين أيديولوجيات القرن الماضي المنغلقة على خطابها سواء القومي أو البروليتاري.
لذا لم ينقطع مسلسل الصدامات الدموية حول السلطة والثروة وانزلاق معظم الطبقات الحاكمة تدريجيا نحو الدكتاتورية وعدم قدرتها رغم كافة المسرحيات الديمقراطية على تداول السلطة سلميا أو التنازل عنها.
ويكمن السبب في وجود اختلال في البناء الاجتماعي والسياسي من خلال غياب تلك المنطقة العازلة في المجتمع المتمثلة بالطبقة المتوسطة التي تتيح أكبر قدر من السيولة والهدوء في امتصاص المطبات لضمان تبادل السلطة من خلال ذلك الكم الهائل الذي تفرزه هذه الطبقة من الكفاءات الوطنية والمستقلة بعيدا عن مغامرات الطائشين أو تغول السلطات التنفيذية لأنها بطبيعتها شريحة متحركة ومنتجة تتقبل بصورة طوعية مفاهيم الديمقراطية.
لقد أدى غياب مثل هذه الطبقة أو على الأقل اضمحلال دورها الفاعل في الحياة السياسية والاجتماعية إلى أن تعصف كل فترة بهذا البلد أو ذلك أزمة تكاد تفتك بوحدته وتطيح بتماسكه الاجتماعي وأمنه الوطني وتفتح الباب على مصراعيه أمام التدخل والنفوذ الأجنبي، لأن السلطة في أنظمتنا العربية وخلال هذه الأزمات ونتيجة لتراكم الفجوة مع شعوبها تجد نفسها مباشرة وعلى حين غرة وجها لوجه أمام الشعب الغاضب ومطالبه المشروعة المتفجرة دون أن تجد هذه السلطة حيزا للتفاهم مع أحد أو صمامات أمان تسهل عليها انسيابية هذه المطالب وتحول دون تفجرها دفعة واحدة.
كيف يبدأ الشباب التغيير؟
وقد يكون الثوار الشباب أنجزوا جانبا مهما من ثورتهم وهو ذلك الحيز المتعلق بأيقونة الثورات العربية “الشعب يريد إسقاط النظام، ولكن يبقى الواجب الرئيسي أمامهم لكي تكتسب ثوراتهم المحتوى الحقيقي والجوهري للتغيير هو في الإجابة على الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام لدى المواطن البسيط والتي تتعلق بواقعه الاقتصادي والمعيشي وحرياته الأساسية وبالتالي يبرز سؤال لعله سيشكل الأيقونة الثانية لربيع هذه الثورات مفاده “ماذا يريد الشعب بعد إسقاط النظام وكيف”؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات المعقدة لا تكون بالتأكيد في ساحات التحرير وإنما بإيجاد هياكل ومنظومات سياسية وفكرية واقتصادية جديدة ملتصقة بواقع الشعب وقادرة على تحويل هذه الأسئلة إلى أفكار ومناهج وبرامج، ويمكن العمل على ذلك في المرحلة الحالية عبر طريقتين متلازمتين قد تبدوان لأول وهلة منفصلتين ولكنهما في الحقيقة مترابطتين:
أولا: التنشيط الفوري لدور النقابات والاتحادات والهيئات ومنظمات المجتمع المدني التي تنظم عمل شرائح المجتمع المتوسطة وبكافة اختصاصاتها وفك ارتباطها حيثما وجد بالدولة, وذلك لضمان استقلاليتها وحريتها وإعادة تنظيم صفوفها وملامح هويتها وشخصيتها المعنوية على أسس جديدة قريبة من أهداف الثورة وإعادة الاعتبار والثقة لها بعيدا عن السلطة.
ثانيا: تحفيز شباب الشريحة المتوسطة على تشكيل أحزاب سياسية للتعبير عن أفكار ومصالح هذه الطبقة، مثل هذه الأحزاب، مدعومة بقوى الشعب الذي تمثل مصالحه واندفاعة شباب الثورة، قادرة على مسك زمام الأمور والمضي قدما على طريق إنجاز أهداف التغيير والسعي لإقامة دولة مدنية قوية وعادلة تنبذ العنف والاستبداد تنبثق عنها حكومات تنصرف اختصاصاتها حصرا في توفير الحريات والأمن والخدمات.
إن هذه الطبقة هي أصلا وليدة الشعب وليست منفصلة عنه وبالتالي هي متحيزة بالفطرة لمصالح الجماهير، ويكمن الفرق بينهما في الرؤية في كيفية التغيير، حيث تتسم آليات التغيير لدى هذه الطبقة بالعقلانية والموضوعية والتدرجية بعيدا عن الفوضوية والغوغائية.
ولديها القدرة على تحقيق الانتقالات الجذرية بهدوء بعيدا عن الإفراط والتفريط ودون جر المجتمع إلى خسائر جانبية كبيرة وحروب أهلية، فهذه الطبقة أقل استدراجا للنعرات الطائفية والعرقية كونها الطبقة الأكثر وعيا وثقافة وشعورا بالمسؤولية والأكثر حصانة ومناعة مقارنة ببقية شرائح المجتمع.
قد تكون عقارب سرعة التغيير في ساحة التحرير لا تنسجم مع نفس عقارب سرعة التغيير المنشودة أفقيا وجذريا, وعدم تناسب السرعتين قد يشكل فجوة لا تلبث أن تعيدنا إلى المربع الأول
وكذلك لأن طبيعتها ووظيفتها تتنافى سلوكا وفكرا مع الثقافات الفرعية، ومندفعة تلقائيا نحو المستقبل والتطور والحداثة. إن تحالفا جديدا مبنيا على رؤى سياسية واضحة في كيفية إعادة بناء وتنظيم الدولة والمجتمع يقوم بين شباب الثورة وبين الطبقة المتوسطة في مجتمعاتنا العربية، مثل هذا التحالف الذي يمكن التعبير عنه بتشكيل أحزاب وهيئات وروابط حديثة تنزع عنها كافة مؤسسات العمل السياسي التقليدية وأفكارها التي أصبح البعض منها في ذمة الأدب السياسي مثل هذه العلاقات والمبادرات كفيلة بإنتاج عقد سياسي واجتماعي أكثر ملاءمة للشباب العربي، وتخلق لهم وتهيئ أمامهم مهام عمل وطني وفرصا أكثر إشراقا للمستقبل، وقد تشكل فرصة لاندفاع مجتمعاتنا واللحاق بركب المجتمعات المتطورة.
قد تكون عقارب سرعة التغيير في ساحة التحرير أكثر وتيرة بفعل الضغط المباشر للشباب وحرارة دمائهم الغاضبة وسرعة استجابتهم المذهلة بفعل أدوات الاتصال الثورية المعاصرة والفاعلة كالفيسبوك والإنترنت، إلا أن هذه الاستجابة لا تنسجم بالتأكيد مع نفس عقارب سرعة التغيير المنشودة أفقيا وجذريا على مستوى المجتمعات حيث المصانع والحارات والمزارع والمدارس التي تتطلب أدوات وآليات ذات نفس طويل ووجود يومي في جميع هذه الزوايا، وعدم تناسب السرعتين وإمكانية التعشيق بينهما قد يشكل فجوة لا تلبث من جديد أن تعيدنا إلى المربع الأول.
المصدر:
الجزيرة
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.