لا تقدم سوى تبرير للحالة الديكتاتورية التي اتحدت بها مؤسسة الدولة القطرية منذ انقضاء عهد الاستعمار الأوربي العسكري. فلن تنتظر شعوب العالم الثالث بلوغَ درجات التقدم (الحضاري) حتى يمكنها أن تفوز بحريات إنسانها. هذا في الوقت الذي يدَّعي البعض عكس هذه النظرية، أي كون الديمقراطية هي المُحَرِرة من إكراهات التخلّف. فمنذ أن تبدأ الشعوب المقهورة إذن طريق النهوض، من الحرية نحو التقدم، أو من خلْق معجزة التقدم أولاً، ومن ثم ينبثق المجتمع الحرّ. لكن التاريخ، وتجارب الشعوب الناهضة، تقدم نماذج التحرّر من دون هذا الوقوع في شباك الأسئلة القبْلية المجرّدة.
ذلك أن الظلم هو أعدى أعداء الإنسان فرداً وجماعة. ولا يحتاج الشعور بنوائبه، وبالتالي الثورة عليه، إلى أكاديميات الوعي والتوجيه، بقدر ما يحتاج المظلومون أنفسهم إلى استنهاض إرادة الرفض من أعماق لاشعورهم الجمعي.
الظلم يتحدّى (الضعفاء) كيما يعيدوا اكتشاف قواهم المجهولة أو المقموعة أو الضائعة. فليس الظالمون هم الأقوياء دائماً بل تُثبت سيكولوجيا الثورات أن الطغاة الأشدّ ظلماً هم الأكثر خوفاً. والخوف هذا لا ينتاب الطغاة إلا لكونهم يدركون محدودية قواهم. حين يُمعن طاغوتٌ في العنف المجنون ضد خصومه، فإنه يعلّل ذلك بضرورة الدفاع عن وجوده، هذا النوع من الوجود الذي لم يعد موضوعَ ثقةٍ من قبل صاحبه نفسه، كأنما يُمارس الطاغية ظلمه ضدّ نفسه أولاً، إنه يُقسر ذاته، يجبرها على ارتكاب أفظع المحرّمات، يجعلها تستبق انتقاماً كيّديّاً هائلاً من هؤلاء الأعداء قبل أن يُنزلوا به الضربة القاضية.
تُدهشنا كلَّ يوم مشاهدُ وأخبارُ الفظاعات المرتكبة عن طريق زبانية سلاطين الأمر الواقع العربي؛ يكاد الوعي العادي يرفض التصديق، فكيف يمكن لهؤلاء الطُغمة من ناس السلاطين أن يكونوا وحوشاً نظاميين بكل معنى عبارة: انتظام الجماعة لتأدية مهمة عامة. ومع ذلك هؤلاء بشر عاديون قد تراهم كل لحظة في شارع أو مقهى أو مكتب. لكنهم في لحظة أخرى سوف يصوّبون بنادقهم إلى صدور الشباب العارية، قد يقتلون أو يعذبون أطفالاً، قد يغتصبون فتيات وأمهات وجدّات، يحرقون بيوتاً، ويشردون آلاف العائلات إلى براري الوطن الآخر ما وراء الحدود.
سلاطين العرب لم يعودوا مجرد حكّام، صاروا مُلاكاً للبشر والحجر في بلادهم؛ والمُلاّك يستبيحون رقاب عبيدهم، يدوسون كرامتهم منذ عشرات من سنوات الاضطهاد والعسف الهمجي. فالشعوب التي يطول استعبادها، يعتقد سلاطينها أن مجتمع العبيد صار قطيعَ خرافٍ، وقد حان أوان ذبحها. ما أن أنكرت حالَها تلك.
ثارت مجتمعاتنا العربية، المذلّة والمهانة، قبل أن تنجز مرحلة انتقالها من خانة العبودية المكبوتة إلى خانة خرفان الأضاحي التي ستتناثر لحُومها ودماؤها على أرصفة الشوارع الغاضبة. لم يعد أمام الشباب العربي ثمة اختيار آخر، إلا أن يتابعوا عبودية آبائهم أو يعلنوا ثقافة التضحية وليس مصير الأضحية المرسوم، والمتناوب من جيل نهضوي خائب إلى جيل يلحق به.
في سورية لم تحدث الثورة بعد، وإن وقع قَمْعُها قبل أن تولد. لكن في سورية تتأجج كل دواعي الثورة الحقيقية، وإن لم تنتصر مبادراتها المشتتة بعدُ. فالتظاهرات ليست دليلَ إثبات كاف، ولا دليلَ نفي حاسم. لكنها تظل أشبه بتمارين استطلاع عما سيجري بعدها. ههنا تنجح السلطة في طرح تعويضات عن النتائج غير المتحققة بإرادة الجماهير وحدها. إذ يصبح رجال الحكم فجأة هم دُعاة الإصلاح. وهم اللائمون للآخرين على التردد والتقاعس. كأنما وصل الحاكم والمحكوم معاً إلى موقع متشابه، من حيث أن أيَّاً منهما لم يحقق انتصاراً منجزاً على الآخر. فالسلطوي قد تحرك قليلاً من ما وراء متاريسه.. لعلّه يصبح هو الداعية الأول للمصالحة تحت ستار القبول بـمواعيد، ومشاريع عن إصلاحات قادمة، لكن الجمهور المتقاعس حتى الآن عن تلبية النداء، كأنه يردد الحكمة القائلة: إن الحرية المؤجلة تصير مبرراً للاستبداد الحاضر. فالتاريخ لم يحدثنا أبداً عن سادة قرروا الثورة أو الإصلاح بالنيابة عن عبيدهم، من فوق رؤوسهم، أو ما وراء ظهورهم. ما لا تستطيع سلطة الطغيان أن تفهمه أن الإصلاح لا يمكن ان يسير جنباً إلى جنب مع القمع، وإلا أصبح مناورةً قمعية أخرى، بألفاظ وممارسات أخرى مضلّلة.
من حق الجمهور ألا يقبل دعوة طارئة لاستعادة الشراكة مع السلطة. لكنه يُطالبها بالرد على تحديها المصيري، أن تنفكّ عن القمع. تُرى هل هي قادرة حقاً على الاستجابة. ذلك هو السؤال المبدئي في كل همروجةٍ عن إصلاحات وحوارات ولقاءات مع أنداد أو معارضين أو ثائرين أو فوضويين… إلخ. فالحالة الراهنة التي وصل إليها كل من الحاكم والمحكوم بعد حمامات الدم المُراق، لا تسمح لأحدهما بالتخلي عن سلاحه قبل الولوج إلى أية قاعة للمفاوضات. فلا السلطة تترك قمعها وراءها، ولا المحكوم سوف ينقطع عن جماهيره المحتشدة في شوارع الإنتظار والخيبات المتلاحقة.
إذن، ليست هي الثقة المفقودة بين الطرفين، وحدها التي تشكّل أساس الاستعصاء المسيطر، بل أصبح الأمر يتعداها إلى السؤال الأخطر: هل ستعيد الجماهيرُ إلى السلطة مشروعيتها المهدورة بأفعالها، هل ستقبل بها حليفاً أميناً في مشروع تغيير بنية الدولة المهترئة، وليس المجتمع المحبط وحده.
ذهنية الطغيان عمياء عمّا يحيط بها من مهالك. وقد يذهب بها بعض غرورها القديم إلى أن تطرح التهديد الأخطر: إما الإنصياعُ لها أو ضياع سورية كوطن! بالمقابل تعاني حركاتُ الاحتجاج الشعبية من مختلف اعتداءات الثورة المضادة على أفكارها وأشكال ممارساتها اليومية. فالغرب وأدواته لا يكفون عن قذف الحركات الشارعية بالشبهات القاصدة إلى تشويه محركاتها العفوية، وتحريف مقاصدها النبيلة. هذا التبني (الأجنبي) الخبيث لأنبل التطلعات الوطنية براءة وحماسة، يتجنَّى على صدقية الحالة الثورية العربية عامة. ويكاد هذا الالتباس المفتعل بين الوطني والأجنبي، يحقق أسوأ مصير كذلك للانتفاضة السورية ، فيما لو تابع النظام تمسّكه بتهديده الأرعن ذاك: إما هو أو تمزيق سورية كوطن!
ما يعانيه كلُ نظام ديكتاتوري انه سريعاً ما يقع أسيرَ أجهزته الأمنية. لا يمكنه، بين عشية وضحاها، التفريطُ بتفوّقه، بأُحادية قراراته، والانخراط الفعلي في أية حوارات جدّية مع القوى الاجتماعية، بدءاً من مقارعة المعارضة بمنطق الحجة والمصلحة العامة، بديلاً عن إملاءات الغطرسة المطلقة. فليس لأية سلطة أن تعقد صفقة المواقف الوطنية اللفظية في الخارج، مقابل خضوع المجتمع لمصادرة حرياته ومصالحه الحيوية لجهة الزبائنية الحاكمة.. سورية التاريخُ والوطنُ هي التي تُملي إرادة أفعالها القومية المتميزة، من فوق إرادة ساستها. وقد قدمت أجيالُها المتلاحقة أعلى معايير المقاومة عن كرامة الشخصية المفهومية للأمة العربية في أصعب مِحَنها ومنعطفاتها المصيرية، إذ لم تنتصر المقاومة إلاّ لأنها لم تكن يوماً، ولن تكون بضاعةً للبيع والشراء بين أيدي الأنظمة. فليس لأية سلطة أن (تمون) على شعبها بدعم المقاومة لقاء تنازله عن حقوق مواطنيه جملةً وتفصيلا. ثم من يقول أن سورية الشعب لم تكن هي السبّاقة، وهي المعلّمة والقائدة الشرعية لقادتها، الشرفاء العظام منهم تحديداً.
ما تعنيه (المقاومة) في قاموس القيم الإنسانية، أنها هي الأداة الشرعية لرفع الظلم، فلا يحقّ لحكّام ظالمين لشعوبهم أن يدعوا وحدهم أنهم أبطال العدالة المضطهدة. وإلا فكيف يتأتى لأية حوارات مجدية أن تصلح ما أفسدته تجارب العلاقات غير المتكافئة أصلاً بين المقاومة وأعدائها.
ما يحتاجه كيانُ سورية الوطني والحقوقي والسياسي هو إعادة صياغته كلياً، بدءاً من حسم الدولة الأمنية في سبيل دولة المواطنة السوّية، التي قلما نجحت نهضةُ الاستقلال العربي، في التعرّف إلى هويتها والسعي المخلص إلى تثبيت أسسها الاخلاقية في تربية الحاكم والمحكوم معاً.
ما جدوى الثورة العربية في أمسها وحاضرها، إن لم تنتفض على أصول الاستبداد وليس على نتائجه وحدها، على أشكاله المادية المُصَنَّمة؛ فما دامت هذه الاصول خافية، متوارية وراء حدثيات الصراع اليومي المباشر للفعل (الثوري)، لا شيء يضمن ألا تتابع هذه الأصولُ إعادةَ إنتاج المستبدين الجدد، في نواحي الحياة السياسية وسواها. لعلّ هذه الإشكالية هي التي تعطي تجربة الانتفاضة السورية طابعها المختلف، حتى الآن. فالجماهير المعبأة في المدن الكبرى ممتنعةٌ عن النزول إلى الشوارع، ليس ذلك خوفاً من بطش السلطة، ولا تردداً منها في قرار الحسم أو عدمه، مع الثورة أو ضدها، لكنها هي إشكالية البحث عن أصول الحرية الحقيقية ما بعد الخلاص من الاستبداد وبعض أسبابه أو ادواته. فأهل الكهف لا يصدقون أن هناك عالماً منيراً، مختلفاً كلياً عن ظلمات الكهف وأشباحه.. إلاّ عندما ينتزعون ظلمة الكهف من عقولهم أولاً.
إذا كان ثمة خشية من الحياة الحرّة وأعبائها، فذلك لأن المخيال العاميّ لم يكتشف بعد أصولَ الاستبداد في كينونة المحكومين، وليس في جبروت الحكام فحسب. هنالك نوعٌ من طاعةٍ تجهل اسمَها. قد تستبد بالمجاميع البشرية، كتعويض صامت عن رفض الاعتراف بالعجز القبْلي، السابق على تحدي المواجهة؛ لكنه عجز موهوم يتخفَّى وراء دعاوى حفظ البقاء، ولو في أدنى شروطه من الكرامة والصحة الإنسانية والذهنية.
ليس لنا أن نضع كل اللوم على عاتق الظالمين وحدهم، في عصر الثورة العربية، هؤلاء لم يسقطوا على قمم السلطات من الفضاء؛ فقد نبتوا وترعرعوا وتصاعدت قاماتهم من تربة هذا الوطن الذي علينا أن نحبه ونقدسه، ورغم كل شيء، وإن كنَّا لا ندري كيف نغيّره ونحميه… إلا بقتلى شوارعنا الكئيبة وصراخها الدائم: الشعب يريد إسقاط النظام!
————–
عن القدس العربي
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.