ياسين الحاج صالح |
سورية دولة فتية. عمرها أقل من قرن واحد. لكنها مصنوعة من “مواد” بشرية وثقافية من الأعرق في العالم.
وسورية دولة حديثة، تشكلت منذ البداية في نهاية الحرب العالمية الأولى كدولة مواطنين متساوين. وهي أقدم الجمهوريات العربية، ولطالما تمتعت بحياة سياسية بالغة الحيوية رغم عمر كيانها السياسي القصير، بل وبسببه.
ولقد خاض الجيل المؤسس من السوريين كفاحا مسلحا وسلميا ضد الاحتلال الفرنسي، ومن أجل استقلال البلاد ووحدتها. ولم تكن هذه الوحدة أمرا مقررا أو محسوما على الدوام. إنها نتيجة كفاح وطني شاركت فيه جماهير ونخب متنوعة المنابع الدينية والمذهبية والإثنية. ومعلوم أن هذا الكفاح أخفق في إحدى جولاته، وخسرت سورية بالنتيجة لواء اسكندرون.
ولم تكد البلاد تستقل عام 1946 حتى وجدت نفسها في مواجهة الكيان الاستعماري الإسرائيلي الغريب والفريد من نوعه، الذي شرد شعب فلسطين، وأقام دولته بالقوة في وطنه. وفي الوقت نفسه أخذ الاستقطاب الدولي المتفاقم يتجاذب البلاد، وتتنافس عليها مشاريع “الدفاع عن الشرق الأوسط“. هذا بينما كانت تواجه مقتضيات التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لبلد متخلف فتي. وهو ما لم تُتِح حداثة سن البلد وضعف هياكله السياسية والثقافية، ومستوى النخب السياسية فيه، فرصا لتطوير معالجات دينامية وفعالة له.
دخلت سورية عصر الانقلابات العسكرية عام 1949، ولم تكد تخرج منه إلا بعد 21 عاما، لتقع في جمود سياسي مستمر حتى يومنا. على أنها عرفت بين عامي 1954 و1958 عهدا ديمقراطيا معقولا، جرت فيه انتخابات حرة حقيقية، وتميز بمستوى مرتفع من التسييس العام، وتوسع التعليم، وامتداد سلطة الدولة إلى كل البقع الترابية للبلد، وقانون توطين البدو عام 1956.
على أن انقسام النخبة السياسية السورية، والتسييس العالي للجيش بفعل البلاء الإسرائيلي وضعف الهوية الوطنية، وتاليا ضعف الإجماعات الوطنية، كل ذلك ولد شعورا بهشاشة البلد، زادتها حدة الاستقطاب الدولي، وتهديدات تركية في النصف الثاني من الخمسينات. وبإخلاص وغيرية شديدين، لكن باندفاع وانفعال شديدين أيضا، قامت الوحدة بين سورية ومصر بمبادرة سورية. ولقد أدت الصيغة التي قامت عليها الوحدة إلى استبعاد النخبة السياسية التي دفعت إليها بالذات، حتى لم تكد تجد الوحدة قوى منظمة تدافع عنها حين جرى الانقلاب عليها بعد ثلاث سنوات ونصف.
وبعد عام ونصف من حياة سياسية متخبطة، أكثر ديمقراطية لكن أكثر اضطرابا، قام انقلاب آخر استولى بمحصلته عسكريون من “حزب البعث العربي الاشتراكي” على الحكم. كان أهم إنجاز حققته “ثورة الثامن من آذار” هو التصدي للمشكلة الفلاحية وتحقيق قدر أكبر من الديمقراطية الاجتماعية إلى حين. أما محصولها من الوحدة العربية ومن الحرية، وهما من “أهداف” حزب البعث، فكان متواضعا جدا. والواقع أن تشددها القومي ولد شعورا بالغربة عند الكرد السوريين الذين يشكلون نحو عشر السكان. وهذه مشكلة لم يجر التصدي لها على نحو منهجي حتى يومنا.
وبعد سنوات قليلة عانت سورية، ومعها وأكثر منها مصر الشقيقة، هزيمة مذلة في حرب 1967، خسرت بموجبها أرضا عزيزة لا تزال محتلة اليوم بعد نحو 44 عاما من تلك الأيام السوداء. وبينما لم تنجح حرب تشرين 1973 في أن تكون ردا حقيقيا على تلك الهزيمة، فقد أمكن استرجاع بعض المحتل من الأراضي، وبخاصة مدينة القنيطرة.
وإذ لم يوفر الحكم غير فرص ضئيلة للقوى الاجتماعية كي تنظم نفسها وتطرح مطالبها في الميدان العام وتدافع عن مصالحها، فسرعان ما تآكلت المكاسب الاجتماعية ذاتها بعد ما لا يزيد من عقد واحد على “الثورة” البعثية. فقبل منتصف السبعينات، وأكثر بعده، أخذت تظهر طبقة أثرياء جديدة، أطلق عليها، حينها، اسم البرجوازية البيروقراطية لكونها تجمع بين الثراء والموقع الحصين في الحكم.
واجهت سورية محنة وطنية كبرى في أواخر السبعينات، حين تفجر صراع عنيف بين إسلاميين محليين متشددين وبين السلطات أودى بحياة الألوف من أبناء البلد، وفتح جروحا غائرة في الضمير الوطني وفي الذاكرة الوطنية وتمزقات عميقة في النسيج الوطني، لما تندمل ولما تعالج بعد. لقد تقاتل سوريون بوحشية، وقتلوا بعضهم دونما رحمة، وكرهوا بعضهم وعملوا من أجل كراهية بعضهم كما يفعل الأعداء. وطوال نحو عقدين مرا بعد تلك المحنة الأليمة عاش سكان البلاد في ظروف قاسية على مستوى الحقوق والحريات والعدالة والكرامة والثقافة والتفاهم الوطني. وعلى مستوى الحياة الاقتصادية والاجتماعية أيضا. وكذلك التعليم الذي كان تبعيثه سبق تلك المواجهات، لكنه سجل قفزات نوعية بعدها وتدهورا حادا في مستواه. وسجل حضور مفرط لأجهزة الأمن في الجياة اليومية للسكان، وجرى تشجيع الوشاية وتعميمها، ما دفع الناس إلا الانكفاء على حياتهم الخاصة والابتعاد عن شأنهم المشترك. ولقد اعتقل وأهين في تلك السنوات الرهيبة ألوف المواطنين، من غير الإسلاميين، لأسباب واهية، بما في ذلك معارضون سلميون، يساريون وقوميون. أما الإسلاميون والمحسوبون عليهم فقد عوملوا معاملة بعيدة عن الكرم والإنسانية.
وبالمقابل، تمحورت حياة البلاد كليا حول الرئيس (الراحل) حافظ الأسد. وجرى تعريف الوحدة الوطنية بدلالة الولاء له ولنظامه، الأمر الذي يُخرج من الوطنية المعارضين وغير المولين. وقد يوصفون أنهم خونة.
وبفعل ما تحقق للولاء من تقدم حاسم على الكفاءة طول الربع الأخير من القرن العشرين، وبصورة ما منذ تحول البلاد دولة حزبية عام 1963، فقد أخذت تراكم تخلفا مركبا بعد أن كانت بلدا متخلفا أصلا. بين عامي 1979 و2003 بقي متوسط دخل الفرد ثابتا على حاله دون 1000 دولار أميركي سنويا. وفي الوقت نفسه، ومنذ أواخر الستينات حتى مطالع هذا القرن تدنى دخل العاملين بأجر، وهم فوق 60% من مجموع العاملين، إلى 25% من الدخل الوطني حسب اقتصادي بعثي معروف، الأمر الذي يعني أن العاملين يشغلون موقعا اجتماعيا وسياسيا ضعيفا جدا في البلد (دخلهم في البلدان الرأسمالية بين 65 و75% حسب الاقتصادي نفسه). وتدهورت الإدارة العامة ونخرها الفساد في جميع مراتبها. وهاجر من تيسرت له الهجرة من السوريين، من أصحاب المؤهلات بخاصة، وأضحت الهجرة إلى الغرب أو بلدان الخليج العربي، هي التطلع الطبيعي لكل شاب متخرج حديثا من الجامعة. وفي الوقت نفسه أخرجت من البلاد أموال قدرها وزير اقتصاد سابق قبل سنوات بما بين 80 إلى 120 مليار دولار أميركي، وقت كان الناتج الوطني الإجمالي نحو 20 مليار دولار.
ينبغي الإقرار أن انتقال الحكم من الرئيس حافظ الأسد الذي حكم البلاد 30 عاما إلى نجله الرئيس بشار الأسد تم بسلاسة ودون أصوات رافضة، رغم تعارضه الأكيد مع المبدأ الجمهوري. كانت سوريا تعيش فراغا سياسيا رهيبا طول العقدين الأخيرين من القرن السابق، وكان مجتمعها ومثقفوها منهكين. ولقد جرى التعويل على أن يفتح “العهد الجديد” آفاقا أرحب أمام البلاد.
لكن بعد انقضاء عام واحد تقريبا، أطلق عليه اسم متفائل، “ربيع دمشق“، ادلهمت الأجواء السياسية في البلاد من جديد. عادت السلطات للتعامل مع الرأي المخالف والاعتراض السياسي السلمي بالاعتقال والسجن. وهذا بالطبع غير عادل، وغير مؤات لمشاركة اجتماعية أوسع، وتاليا غير موافق للمصلحة الوطنية.
لقد ظهر خلال ذلك العام أن المجتمع السوريين والمثقفين السوريين، والطيف السوري المعارض، راغب بطي صفحة الماضي وفي المشاركة في الحياة العامة والسياسية، وفي تجنب نوازع الثأر والانتقام. ولقد تقدم بمبادرات متنوعة من أجل المصالحة الوطنية والحوار الوطني. لكن دون جدوى. لقد أخمدت أصواته أو سُفِّهت.
وفي الأعوام التالية جرت تغيرات كبيرة في البيئة الإقليمية والدولية، والمحلية. لقد غزا الأميركيون وتحالف من أتباعهم العراق واحتلوه واسقطوا نظامه. كان هذا نظاما دكتاتوريا جلفا، والغا في دماء العراقيين، لكن سقوطه عبر احتلال أجنبي متعجرف وطامع أدخل البلد العربي المجاور في درب آلام يصعب الجزم أنه خرج منه اليوم، بعد 8 سنوات من الاحتلال. وبعد أقل من عامين، وفي مناخات التجبر الأميركي، اضطرت السلطات السورية إلى سحب قواتها من لبنان بعد نحو 29 عاما من بقائها فيه، منها نحو 15 عاما لا تبرير لها. لكن هذه الفترة شهدت إنجازا كبيرا تمثل في تحرير الجنوب اللبناني بالقوة من الاحتلال الإسرائيلي، بفضل المقاومة الإسلامية المدعومة من سورية.
وبينما بدا النظام مهددا لبعض الوقت عامي 2005 و2006، فإن سياسة الانفتاح الاقتصادي قد جرى تبنيها في هذه الفترة بالذات. يقول مهندسو هذه السياسة إنها جنّبت البلاد التي تعاني من تراجع إنتاجها للنفط ومن حصار دولي أزمات متعددة، لكن الواضح أن الأكثر استفادة منها هم الفئات الميسورة التي جنت ثرواتها غالبا من مواقع امتيازية في السلطة. وفي حين ارتفع الناتج الوطني الإجمالي، ومتوسط نصيب الفرد منه، والمؤشرات الاقتصادية الكبرى، فإن شيئا من ثمار النمو لم يكد يصيب الفئات الأكثر حرمانا، بخاصة نحو 31% يعيشون تحت خط الفقر الأعلى (دولارين في اليوم) حسب دراسة نشرت بإشراف الأمم المتحدة عام 2004. وبالمثل ليس ثمة ما يؤشر على أن القطاع غير المنظم، وقد كان يشغل أزيد من 40% من السوريين وبحجم مماثل من الاقتصاد الوطني، هو اليوم أقل حجما أو يشغل عاملين أقل. بعبارة أخرى، لم يؤد التحرير الاقتصادي إلى توحيد اقتصادي وطني، أو استيعاب قطاع كبير من السكان ضمن الدائرة النظامية للاقتصاد الوطني. وفي الوقت نفسه، لم يقترن التحرير الاقتصادي بتحرير سياسي، لا بل بمزيد من التشدد، الأمر الذي وضع الضعفاء الاجتماعيين في موقع أشد ضعفا، مقيدون سياسيا بينما هم يتعرضون لهجوم اقتصادي ضار. فلا هم يستطيعون إسماع أصواتهم ولا تنظيم أنفسهم ولا التفاوض الجماعي، بينما يعلو صوت الرأسمال الذي لا يحركه غير مبدأ الربح، والذي ينال حماية السلطات العمومية. هذا بينما يرتفع التضخم بنسبة تقارب 10% سنويا في السنوات الأخيرة، ما يعني ارتفاع أسعار أغلبية السلع الاستهلاكية، وقضم دخول أكثرية السكان في الطبقة الوسطى والطبقات الدنيا، في المدن والأرياف.
ولقد امتد نفوذ الرأسمال في السنوات الأخيرة إلى التعليم أيضا، فصار يوفر تعليما نخبويا متطورا لأبناء الشرائح العليا من المجتمع بينما يتدهور مستوى تعليم الشرائح الدنيا بشدة، بخاصة في الأرياف وضواحي المدن. وهذا خطير على مستقبل البلد وتفاهم السوريين، ومنذر بأشكال عنيفة من الصراع الاجتماعي.
وبينما تبدو السلطات مسترخية خلال السنوات الأربعة الأخيرة، يلوح أنها استقرت على معادلة تجمع بين ضرب مشوه وغير تنافسي من اللبرلة الاقتصادية، لا يتعارض مع استثناءات وامتيازات واحتكارات متنوعة، وبين المثابرة على إغلاق الملعب السياسي الداخلي وتوكيل الأجهزة الأمنية به، أي عدم الاعتراف بأي لاعبين سياسيين مستقلين في الداخل، ومع المثابرة أيضا على التوجه نحو الخارج أو منح الشؤون الخارجية اهتماما أكبر من أية شؤون داخلية.
ومن المقلق أن السلطات طورت في السنوات الأخيرة نظرة إلى المجتمع السوري تراه متعصبا وإيديولوجيّا ومنغلق العقل، ومن الخطير أن يتصور أصحاب القرار في البلد أن هناك فارقا ثقافيا بينهم وبين محكوميهم، فيصفون أنفسهم بانفتاح الذهن وبالقدرة على الحوار وينفون هذه القدرات عن شعبهم. هذه إيديولوجية اقترنت دوما بالنخبوية والتعالي، وتسويغ الاستبداد السياسي بحال وذهنية عامة الشعب، ومحاباة الأقوياء والميسورين.
وبنظرة عامة،
توفر الأوضاع الحالية لبلدنا قدرا قليلا من العدالة الاجتماعية، تؤكده نسبة الفقراء التي تقترب من ثلث السكان كما ذكرنا، والتي نرجح ارتفاعها في السنوات السبعة الأخيرة، نظرا إلى أن ارتفاع نسبة الفقراء ملمح مرافق دوما للمرحلة الأولى من التحرير الاقتصادي وما يواكبها من تضخم نقدي. وعلى كل حال تبدو مظاهر الفقر مرئية اليوم أكثر في شوارع مدننا وفي ضواحيها وفي أريافنا.
ومثل ذلك ينطبق على العدالة السياسية. بلدنا يعاني من حالة طوارئ من الأقدم عالميا، وحريات التنظيم والاحتجاج والمشاركة السياسية قريبة من الصفر. والانتخابات الحرة ليست قائمة على أي مستوى. ويحكم البلاد حزب واحد مع حواش شكلية غير مؤثرة، وحكمه يميز بصورة صريحة وفظة بين المواطنين السوريين في العمل والتوظيف وفرص العيش والأمان، فضلا عن التمييز السياسي. ومعلوم أن رئيس الدولة هو رئيس حزب البعث أيضا. وأن مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش والمدارس والجامعات تعاني من تبعيث شديد الوطأة، وأنه لطالما وصفت سورية ككل بأنها دولة البعث. هذا يعني أن غير البعثيين مواطنو درجة ثانية، فإن كانوا معارضين فقد يكون مصيرهم السجن أو ما هو أسوأ. وهذا لا يمكن أن يكون مقبولا وطنيا وإنسانيا.
وحال العدالة القضائية ليست أحسن. لدينا تعددية قضائية تتناقض مع وحدة العدالة وشمولها. هذا فضلا عن تبعية مطلقة للسلطة القضائية للسلطة التنفيذية بحيث لا يعرف مثال واحد خالفت فيه الأولى الأخيرة. فضلا أيضا عما يتداوله الكثيرون، بمن فيهم مقربون من النظام، من فساد الأجهزة القضائية وقابلية العدالة للشراء من الأغنياء والميسورين، فيما يبقى الفقراء خارج مظلتها.
إن نظامنا، باختصار، لا يوفر المساواة للسكان، أي يحرمهم من المواطنة. أي يوهن الشعب السوري، سياسيا ونفسيا.
الحرمان من العدالة خطير. وأكثر من خطير، هو مدمر.
ويتصل بالحرمان من العدالة عوز شديد في الكرامة تعاني منه أكثرية السوريين. أي في احترام الناس وتقديرهم والاعتراف بجدارتهم الإنسانية والوطنية. ويتصل بهما قدر متدن من حرية الأفراد في التفكير والتعبير والرأي والحركة والسفر، مما لا تتفجر طاقات الأفراد من دونه.
هذا في تقديرنا هو عنوان التحدي الأكبر الذي يواجه البلاد اليوم. وهو تعطيل هائل لقدرة سورية على مواجهة مشكلاتها التنموية والاجتماعية والثقافية والوطنية. بلدنا ليس متقدما، ولا يستطيع الاستغناء عن طاقات أي من سكانه. فكيف يحصل أن تهدر طاقات أكثرية السكان وتقيد، لا لشيء إلا لأن من شان تحررها أن يتسبب بجعل الحكم أشد صعوبة على الحاكمين؟
وفي المرتبة نفسها من الأهمية يشغل بالنا مستوى التفاهم الوطني أو الإجماعات الوطنية التي تشد السوريين إلى بعضهم وتقوي علاقتهم ببلدهم. الحال بعيدة عن المثالية في هذا الشأن. وهي نتاج متوقع جدا لأشكال متنوعة من التمييز واللاعدالة بين السوريين.
نعيش اليوم زمن تفجرات ثورية في عدد من البلدان العربية طلبا للكرامة والعدالة والحرية. ولقد وضعت بعضها مصر وتونس على أول الدرب نحو حياة ديمقراطية جديدة. سورية لا يمكنها أن تبقى بمنأى عن هذه التحولات الكبيرة، وليس مرغوبا من وجهة نظر المصلحة الوطنية أن تبقى بمنأى عنها.
نحن لا نعرف ما يدخره المستقبل لبلدنا، لكننا نطرح أمام الشعب السوري وأمام السلطات هذه النقاط التي نراها مبادئ للإصلاح الوطني:
١ – إن الأداة الكبرى للتطور والتغيير في مجتمعنا وكل المجتمعات الأخرى هي الدولة. وأول الإصلاح إصلاح هذه لتكون قاطرة التقدم لا مصدر الإعاقة الوطنية. وأول إصلاح الدولة هو استقلالها عن “النظام” أو الطاقم الحاكم. وهو ما يقتضي أن الحكم وظيفة سياسية مؤقتة، لها بداية ونهاية، ولا يجوز بحال أن تدوم مدى الحياة. لقد اندثر نموذج الحكم هذا عالميا، وهو في سبيله إلا الاندثار عربيا أيضا. وتجربة البلدان العربية تفيد أن الحكم الدائم مصدر للركود والفساد الدائم. حين يكون هو الأولوية العليا لن يتاح للبلاد أن تتطور وتوسع آفاقها لأن أفضل الجهود ستنصب على تأمين الحكم، ولو اقتضى ذلك تفريق المحكومين والشدة في معاملتهم. من شأن تغير منظم للحكم، بالمقابل، أن يجدد الهواء السياسي للبلاد ويتيح للشعب التنفس بحرية، وأن تظهر بفعله نخب وقيادات سياسية كفؤة.
٢ – ليس مما يشرف سورية أن يقبع جيلان من شعبها تحت حالة استثناء قد تكون الأقدم عالميا، أو أن يكون الاعتقال السياسي والاعتقال على الرأي من الثوابت السياسية والقانونية في البلاد خلال جيلين أيضا. وليس من العدل ولا من العقل أن يقضي سوريون كثيرون سنوات طوالا في السجن، لمجرد كلام قالوه أو رأي أبدوه، أو بسبب مشاركتهم في عمل عام سلمي، لم تسل بسببه يوما قطرة من دماء السوريين، أو يهدر شيء من مالهم.
٣ – يبلغ سكان البلاد فوق 23 مليون نسمة اليوم. منهم شبان دون الخامسة والعشرين نحو 60%. وهؤلاء طاقة حيوية تبحث عن عمل وفرص حياة، ويمكنها أن تكون طاقة تجدد وبناء أو طاقة ثورة كما أظهر المثالان التونسي والمصري.
تلزم 300 ألف فرصة عمل سنويا في سورية اليوم، والنظام الاقتصادي القائم ليس مؤهلا لتوفيرها. وأبواب الهجرة تزداد ضيقا. والقطاع غير المنظم لا يستطيع النمو إلى ما لا نهاية. هذا وفق دارسين كثيرين، لا مصلحة لهم، مصدر للتفجر الاجتماعي إن عاجلا أو آجلا.
مواجهة هذا الواقع تتطلب انعطافا اقتصاديا وسياسيا الآن. وتحديدا فك الارتباط بين السلطة والثروة، بحيث تكون الدولة قوية مقابل الأغنياء القادرين، وليس في مواجهة الفقراء وحدهم كحالها اليوم. وإعادة توجيه الموارد الوطنية باتجاه يعمم منافع التنمية، ويوفر مزيدا من فرص العمل، وإتاحة مزيد من الفرص للشباب لإسماع أصواتهم وتنظيم قواهم. تقرر المصادر الرسمية نسبة البطالة بما بين 8 إلى 10%. بينما يضاعف اقتصاديون مستقلون النسبة مرتين أو ثلاثا. هذه طاقة كبيرة غير مستثمرة جيدا، أو مصدر للاضطرابات والقلاقل.
٤ – تلزم أيضا سياسة سكانية موجهة نحو ضبط الزيادة السكانية الكبيرة، نحو 2,5% سنويا. من شأن استمرار هذه النسبة أن يحد من ثمار التنمية المحتملة ويضغط على الأرض والموارد المائية الشحيحة أصلا. هذا ليس للقول إن سبب مشكلاتنا الاقتصادية سكاني، ولكن لعدم التقليل من شأن هذا العامل.
٥ – إن استعادة الجولان أولوية وطنية قصوى. وكل السبل مشروعة من أجل ذلك. والسلطات السورية مطالبة بصوغ سياسة ديناميكية نشطة لاستعادة الجولان المحتل، تخاطب الداخل والخارج، وتقنع المحتلين بأن احتلال جزء من البلد ليس معدوم الكلفة. ومن أوجه هذه السياسة الملحة الاهتمام المتعدد المستويات، المادي والثقافي والسياسي، بحياة السوريين من سكان الجولان المحتل، وتعزيز تمسكهم بأرضهم وارتباطهم ببلدهم.
٦ – ليس هناك أي مسوغات وطنية أو سياسية أو أخلاقية لاستمرار تجاهل الحقوق الثقافية والسياسية لمواطنينا الأكراد. الأكراد ليسوا عربا. لهم لغتهم الخاصة، وثقافتهم المتميزة، ووعيهم الذاتي المختلف. والمصلحة الوطنية تقتضي الاعتراف بهم وكفالة المساواة الفردية والجمعية بينهم وبين مواطنيهم الآخرين، العرب وغير العرب. وهو ما يمر عبر تعلم لغتهم وتطوير ثقافتهم وتأكيد شخصيتهم، وإعادة الجنسية لمن حرموا منها أو من أنكرت عليهم، وإنهاء الممارسات التمييزية ضدهم. ونحن على ثقة بأن من شأن ذلك أن يظهر كم أن المشترك العربي الكردي كبير جدا، وأن يقوي شخصية سورية وجاذبيتها لسكانها المختلفين، الذي يشكل الكرد أكبر جماعة قومية مميزة بينهم.
٨ – تعاني منطقة الجزيرة من إهمال تنموي مديد رغم أنها مصدر بعض أهم ثروات البلاد، القمح والنفط والقطن بخاصة. وهذا تسبب في السنوات الأخيرة بموجة نزوح كبيرة من المنطقة تتجاوز 300 ألف. يلزم لمواجهة هذه المشكلة تمييز إيجابي لصالح المنطقة، من نوع إعفاءات وتسهيلات ضريبية للمشاريع التي تدشن هناك، ومبادرة السلطات إلى إقامة مشاريع هناك يعمل فيها تفضيليا سكان المنطقة. واهتمام أكثر جدية بالتعليم ومكافحة التسرب المدرسي، وتطوير الإدارة، ومكافحة الفقر. وليس أقل أهمية تصحيح التمثيلات المعرفية السلبية عن المنطقة وسكانها، وهي تمثيلات تنحصر بمدركات من نوع الجهل والتخلف والخنوع والشراسة.
قضية الجزيرة قضية تكامل وطني سليم وقضية وطنية بامتياز.
٨ – لا بد من اهتمام خاص بتعزيز الهوية الوطنية السورية وتطوير طاقتها الاستيعابية للتنوع الثقافي والاجتماعي والديني للسوريين. العروبة والإسلام هما العمودان الأساسيان للشخصية الوطنية السورية، لا تتطور ضدهما. لكن لا شيء يوجب تجاهل غنى تاريخ الأرض السورية، احد أقدم مواطن الحضارة على الأرض.
ومما يصب في تعزيز شخصية البلد المساواة بين السوريين في المواطنة. فنحن لا نتساوى على أرضية دينية لكون بلدنا متعدد الأديان، ولا على أرضية قومية لكون بعض السوريين من أصول غير عربية. نتوحد فقط على أرضية المواطنة، أي المساواة الحقوقية والسياسية بين السكان. ومن هذا الباب فإن المبدأ الذي يتعين أن تنتظم الحياة العامة في البلاد على أساسه هو المساواة التامة بين السوريين بصرف النظر عن الدين والعرق والجنس واللون. منطق الامتياز، سواء كان مقننا أو غير مقنن، غير مقبول بأي شكل.
٩ – لا يسع سورية أن تعزل نفسها بصورة مصطنعة عن لبنان وفلسطين والعراق والأردن، أو عن مصر، أو عن الجزيرة العربية والعالم العربي عموما، أو عن الجارة التركية. لا تستطيع أن تنشغل بنفسها حصرا. ما يجري في هذه الدول الشقيقة والجارة لا بد يؤثر على سورية، والعكس صحيح. يمكن للمجال العربي أن يكون عمقا ثقافيا واستراتيجيا واقتصاديا يستند إليه بلدنا، بصورة لا تتعارض مع استقلال دوله. ولا تنصب حواجز وهمية ضد صيغ متنوعة من التعاون مع أطراف غير عربية.
تبقى إسرائيل استثناء عن هذه النظرة. هذه دولة معادية لا يُتصور أن تقوم معها علاقات طبيعية يوما. وفي هذا الإطار، نرى أنه ليس لسورية مصلحة بمواجهة عسكرية مع المحتل الإسرائيلي المدعوم من أقوى أقوياء العالم. تجربتنا الوطنية مع هذا الكيان طوال عقود تؤكد هذا الدرس. بالمقابل، لا يبدو أن المفاوضات تجدي معه للسبب ذاته الذي يجعل الحرب غير مجدية، أي فارق القوة واختلال موازينها. المخرج الذي نراه هو بالضبط حالة اجتناب الحرب ورفض أي تسوية غير مشرفة، وتكريس الجهود لبناء بلدنا ونهوضه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، أي تحرير طاقات السوريين إلى أقصى حد ممكن. إن إسرائيل تنتفع من شلل بلداننا ومن تعثرها، وهي أول المتضررين من حيويتها وتحرر شعبها وتوسع ملعبها الداخلي.
١٠ – وبالمثل ليس لسورية أن تنعزل عن عالم واحد نحن منه وهو منا. ما من حجج ثقافية أو سياسية تسوغ ذلك. تكنولوجيا واقتصاديا وبيئيا، وكذلك سياسيا وثقافيا، العالم وحدة واحدة. وهو يزداد ترابطا بفعل “العولمة” التي لا نستطيع التأثير عليها في اتجاهات تناسبنا دون الانخراط في عملياتها وتحمل المسؤولية مع غيرنا عن تطوير ضوابط مؤسسية وقانونية وقيمية لها.
١١ – إصلاح التعليم، الآن، من الأولويات الكبرى لبلدنا. يقتضي الأمر مضاعفة نصيب التعليم من الميزانية العامة. هذا ليس استثمارا ربحيا قصير الأمد، ولا هو حتى استثمار استراتيجي. إنه استثمار وطني أساسي. الارتقاء بالمناهج لا يكفي. لا يد من ارتقاء بالمعلمين، وبالمدارس والجامعات ومستلزماتها، ولا بد من نزع حزبية التعليم لمصلحة تعزيز صفته الوطنية والعلمية والثقافية. يجب وضع خطة وطنية للتخلص من الأمية خلال عشر سنوات. علما أن نحو 19% من الرجال و26 % من النساء أميون، حسب أرقام رسمية قد لا تكون دقيقة.
١٢ – ينبغي لسورية المساهمة في تطوير الثقافة العربية وفي صنع معنى العرب والعالم العربي المعاصر، والانفتاح الثقافي والنفسي على العالم والتعلم منه والمشاركة فيه. وكذلك تطوير الفكر الإسلامي والحياة الدينية والروحية للسكان، مسلمين ومسيحيين وغيرهم. بلدنا متأخر ثقافيا، وهذا عائق دون معرفة أفضل بالواقع، ودون الترقي الإنساني والأخلاقي للشعب، فوق كونه عائقا تنمويا أيضا. إن رعاية الثقافة والتفكير الحر والتوقف عن التوجس من المثقفين أو الشك فيهم والتحريض عليهم ليست أشياء كمالية في سورية تتطلع نحو مستقبل أكثر تحررا وغنى.
١٣ – تتطلب أوضاع النساء مزيدا من الاهتمام العام ومقاومة التمييز الجنسي في العمل والتعليم وفي أي ميدان ظهر. يستوجب تطور البلاد انخراطا أوسع أكثر وأكثر للنساء في الحياة الوطنية العامة، بما فيها الحياة السياسية. من شأن ذلك أن يفتح آفاق البلد ويحسن نوعية الحياة فيه ويضفي قدرا أكبر من التفاؤل بمستقبلها، وربما يسهم في الحد من مختلف أشكال العنف في حياة السوريين الخاصة والعامة، فضلا عن تحسين صورة البلاد في عين سكانها (وهو ما يقوي ارتباطهم بها) وفي عين العالم. وهو يقتضي إصلاح قانون الأحوال الشخصية باتجاه يضيق فجوة التمييز بين الذكور والإناث في الزواج والطلاق والميراث والولاية على النفس.
١٤ – إن المهاجرين السوريين، ومنهم ألوف مهاجرون قسريون منذ سنوات تصل في بعض الحالات إلى أكثر من ثلاثين عاما، هم رصيد إنساني وثقافي واقتصادي للبلد، وليسوا عبئا عليها أو خطرا يتهددها. ومنذ الآن تعتمد كثير من الأسر السورية على تحويلاتهم، وبعضهم كفاءات عظيمة لا يسع بلدا مثل سورية الاستغناء عنهم. إن عودة المهاجرين القسريين غير المشروطة، وإن الترحيب بجميع المهاجرين السوريين في وطنهم، من الشروط الأولى لسورية الجديدة، العادلة والكريمة.
١٥ – فضلا عما سبق ذكره في مجال المواطنة والحريات والعدالة، نرى مهما تحويل النظرة السياسية أو إدارة عنق الدولة وعينها نحو الداخل الاجتماعي الوطني، لتكون السياسة الداخلية هي السياسة الكبيرة، والسياسة الخارجية هي السياسة الصغيرة، الملحقة بتلك والعاملة على خدمتها. هذا الإصلاح المطلوب في الثقافة السياسية ضروري جدا من أجل وضع حد لمصادرة الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية الداخلية كي تتفرغ نخبة الحكم للعب مع الكبار. الكبير هو الشعب السوري. وهو السيد.
———–
عن مدونة بدل ضائع لياسين حاج صالح
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.