د. نائل حريري |
ما تعرفونه جيداً: غدي والصحافة الحرة
نشرت الصحفية “غدي فرنسيس” بتاريخ 14 تموز 2011 مقالةً لها فجّرت قنبلةً إعلاميةً من عدة اتجاهات. كانت غدي مشهورةً بحبها لسوريا وتعاطفها مع حماه، ونشرت في بدايات التركيز على حماه مقالاً يكاد يكون مفعماً بالحب للحرية والانعتاق كان عنوانه (حمـاه وجراحهـا وإرث «الإخـوان»: أعطنـي حريّتـي!) قالت فيه: “يمكن القول ان مدينة حماه، بالمقارنة مع أخواتها – حمص، اللاذقية، درعا، دوما، المعضمية… وغيرها – قد قدّمت الصورة الاكثر عقلانية عن الانتفاضة السورية. ربما علمها التاريخ ودماء أبنائها المسفوك في الماضي، أن «السلاح» ليس الطريق الامثل إلى الرفض ولا التعبير عن الرغبة بالتغيير”.
أما ما تغيّر في هذا التاريخ ومع انتهاء الشهر الرابع من عمر الحراك الاجتماعي السوري فهو أنّ الصحفية الشابة زارت المدينة كأول صحفيّةٍ من خارج سوريا وكتبت رؤيتها للحدث من داخله تحت عنوان: («السفير» في حماه: للحرية غضبها ومواجعها!). لا يمكن للمقال الصحفي غير الخبري أن يخرج مجرداً من انطباع وأحاسيس وأفكار كاتبه. لقد وصفت غدي حماه في مقالها بأنها “قندهار السورية” رابطةً هذا بعدة نقاطٍ طالعتها واستنتجت منها هذا التوصيف. تجرأتْ “غدي” وكتبت العبارة التالية: “حماه تمارس هوايتها الجديدة وتلبس ثوب «قندهار» سوريا، كما يردد البعض لوصف بعض احيائها”، فكانت كمن فتح باب الجحيم على نفسه! وإذا كانت بالأمس قد خاضت حمم جحيم الاعتقال من قبل السلطات، فإنها اليوم تخوض حمم جحيم المعارضة التي تتهمها بالعمالة للسلطة التي اعتقلتها سابقاً، وبين الجحيمين تتناوب أوجاع غدي كأنها تختزل معاناة السوريين في معاناتها.
معارضة ضد الحرية:
كان الحدث الذي أشعل الفتيل هو أن تياراتٍ كثيرة وأفراداً كثيرين من المعارضة السورية (دعاة الحرية) وقفوا يهاجمون غدي فرنسيس هجوماً متنوعاً على كافة مستويات الخطاب اللأخلاقي سواء على صفحاتهم الشخصية أو عبر رسائلهم وبياناتهم التي لم تهدأ. تضمنت الردود تهماً بالخيانة والتواطؤ مع المخابرات السورية وإطلاق مسميات لا حصر لها. فجأة تحولت المعارضة السورية إلى غولٍ ديكتاتوري ديماغوجي يأكل كلّ من يقف ضدّه. وإذا كان بعض المعارضين يرفضون التخوين والمصادرة فيما بينهم فإنّ جميعهم تقريباً قد اتفق على حملة شعواء على السفير وعلى غدي فرنسيس.
بعد نشر التقرير، اصدرت مجموعة من المثقفين بياناً حمل عنوان “بيان لمثقفين سوريين يستنكرون توصيف “السفير” حماة بـقندهار!” وقد استهل هؤلاء المثقفون بيانهم بكليشة الاتهامات الجاهزة من قبيل “تقارير الغرف المعتمة” و”أنها عضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي” و”شخصية ذات صلة ما بالمخابرات السورية” وحاول البيان تفنيد ما جاء في التقرير وإثبات وجه المغالطات الواردة فيه ولاسيما لجهة التأكيد على سلمية الحراك الشعبي في حماة مما يمتنع معه تشبيهها بقندهار. واستنكر البيان ما سماه “التعاون الأمني وغير المهني” من قبل “السفير” مع المخابرات السورية في الترويج لرواية النظام الكاذبة عن مدينة تنتظر القوى والاجهزة الأمنية والشبيحة في النظام الديكتاتوري الفرصة لاقتحامها على امل كسر شوكتها وإخماد التظاهرات السلمية فيها.
أخيرا طالب البيان جريدة “السفير” بشخص صاحبها طلال سلمان اعتذارا علنيا لكل الشعب السوري عن هذه الخطيئة المنكرة، وإلا فإننا سنعتبر الصحيفة منذ اليوم عدواً للشعب السوري وأمانيه بالتحرر””.وفعلاً رضخت السفير لمطالب البيان وقدمت اعتذارها عن نشر التقرير، ولم تكتفِ بهذا بل أقالت الصحافية من استكتابها لدى الجريدة.وقد كتبت غدي على حائط صفحتها في الفايس بوك التعليق الآتي: «بعد أن منعني من كتابة مشاهداتي عندما اوقفني الامن السوري “كي لا ينزعج أحد”، أستاذنا الكبير طلال سلمان يستغني عن خدماتي الإستكتابية رضوخاً عند رغبة “الديمقراطين”.لانني اول من اتى بصورة صحافية من حماه». وذكرت في تحدي واضح أنها ستذهب إلى حماة من جديد يوم الاربعاء التالي.
القصف، والقصف المضاد:
انتقل الهجوم إلى صحيفة السفير نفسها. رسائل كثيرة محملة بمئات التواقيع “تشجب وتدين وتستنكر” وتلغي تاريخ أعرق وأهم صحيفة يسارية ديمقراطية وأكثر الصحف احترافية في الوطن العربي لمجرد أنها تبنت رأياً يخالف “ما اتفق المعارضون عليه”. وبما أنّ السفير لم تعتد هذا الهجوم الذي يشبه هجوم (الجيش السوري الإلكتروني) فقد عمدت إلى نشر اعتذارٍ صريح عن مقال فرنسيس ومن ثمّ…. طردت غدي من الصحيفة!! هكذا وبكل بساطة كما يحدث في الدول المتخلفة المتعنتة الديكتاتورية، لم يعد هناك فرق بين من يكتب مقالاً ينتقد السلطة ومن يكتب مقالاً ينتقد المعارضة. بل أصبح التخوين كذلك يلاحق من يقف في المنتصف بينهما. غدي تترك مكانها في السفير مثقلةً بصدمتها بينما المثقفون السوريون يندبون حرية الرأي والتعبير وتصرخ أصواتٌ في أماكن متفرقة من سوريا: “حرية، حرية، حرية!”
غدي فرنسيس مجدداً:
من منبرها الجديد في صحيفة الأخبار، تعود غدي فرنسيس لاستكمال الملف السوري. ففي مقالها اليوم “«هستيريا» الاقتتال بين الحقيقة واتهام النظام” تستكمل النظر بحيادية ومن الطرفين نحو أزمة الحديث عن الطائفية في سوريا إنما بأسلوب أشد استفزازاً هذه المرة. ربما من منطق رد الصدمة بصدمة أشد، أو من منطق أن الأقنعة انكشفت ولم يعد من مجالٍ للتورية حفاظاً على خواطر من لا يحسبون حساباً للخواطر. على أيّ حال لم تتحوّل غدي إلى الانحياز، ولم تقم بتبني رأي دون رأي بل عرضت جميع الآراء بما فيها رأي منذر مصري المفرط في سلميته ومن ثمّ أكدت رأيها في أن الوضع الطائفي في سوريا ينفجر ولا يمكن التغاضي عن ذلك.
في هذه الأثناء:
النظام السوري يسير في قطيعٍ مختلف تماماً. فهو للمرة الأولى في تاريخه وتاريخ صدور الصحيفتين الأشهر في الوطن العربي (السفير اللبنانية والأخبار اللبنانية) يصدر قراراً بمنعهما نهائياً من دخول الأراضي السورية. وهو قرار يدلّ على أن المحصلة النهائية للنظام السلطوي الثقافي في سوريا ليست نظاماً يحارب الثقافة والإعلام بل نظام لا يدرك معناهما أساساً. فالمتابعة الاساسية لهذه الصحف كانت وما تزال إلكترونية لا ورقية. بغض النظر عن إسهاب الدولة في زيادة الطغيان الفكري والإعلامي وتجييش الآراء ضد ديكتاتوريتها وقمعها حتى للصحفيين والصحافة في الخارج. كما أنّ هذه المقالات المنشورة حالياً تخدم النظام أكثر مما تخدم أي طرف آخر، فالمعارضة تصرخ ولا أحد يرد عليها، ولا يمكن لأصواتٍ متفرقة أن تؤثر على موقفها أو مو قف النظام منها. أما النظام فهو المستفيد الأكبر من هذه الطروحات كلها.
إذاً ما هو تفسير حركة المنع الغبية هذه؟ التفسير هو مجرد جملة ذكرتها غدي فرنسيس في مقالها القنبلة: “إن كنت صحافيا في دمشق، ستكوّن ملاحظاتك على النظام وسيعيش في رأسك رجل استخبارات صغير. ستخاف من أي كلمة تكتبها في انتقاده”. هذه الجملة كانت كافيةً لنسف صحيفتين ضخمتين من أعرق الصحف العربية لذى عقلية هذا النظام المتآكل بيروقراطياً وفكرياً. والحق في سورية أن المنع يمكن أن يتمّ من قبل أصغر موظف في أصغر فرع أمني في حين أن إعادة السماح تتطلب موافقةً من أعلى الجهات في الدولة.
إذاً غدي فرنسيس مستهدفة من قبل الجميع ومعها تستهدف حرية الإعلام وحرية الثقافة ككل. الآن نعود إلى فضائح تشبه فضائح سلمان رشدي وآياته الشيطانية، وسورية تراوح بين نظام متآكل عقلياً وثورةٍ غاضبة شعبياً من كل شيء وممتعضة بشكلٍ أعمى من كل شيء بحيث لا تسمح حتى بانتقاد أخطائها. كلاهما يرفس الثقافة بإحدى قدميه. وبينهما يطير الشعب السوري في الهواء منتظراً الفرج. المثقفون السوريون مشغولون اليوم بإجراءات التظاهر في الشارع متناسين أن انشغالهم بالشارع هو ما أوصلنا إلى هذا الحد من الخواء.
أخيراً اسمحوا لي أن أنكر تعميمي للحالة. وأن أخص بالاستثناء قامةً رفيعةً في وطنيتها ووعيها وفهمها مثل (ميشيل كيلو) الذي كان دائماً يضع الوطن في رأس القائمة. وكان لا يفرق بين انتقاد أخطاء السلطة وانتقاد أخطاء المعارضة وانتقاد أخطاء المثقفين وكذلك الشارع. فالخطأ خطأ ويجب الحديث عنه وكشفه وانتقاده ومن ثم معالجته. إنما هل ينتصر المثقف الوحيد الضعيف أمام نهر الجنون؟
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.