يوسف أبو خضور
ليست عطراً تتعطر به و تخرج لإغواء العالم، ليست وشاحاً تربط به رأسك يقيك من الصداع، ليست صرخة في الفراغ و كفى..
الثورات..
ليست فعلا جميلاً، و لم تكن كذلك يوماً، و البلاد التي تقف على حافة ثورة ليست بلاداً جميلة، و البلاد الثائرة هي أقبح ما ستصادفه في حياتك..
الثورات هي كبت السنين الماضية، هي الدم الفاسد في شرايين البلاد، القيح المتجمّع تحت جلدها،
هي القتل المؤجّل المختبئ في ملامحها، و تذكرة للعبور إلى عالم الأحياء من باب الموت.
هي الغضب المستعر في قلوب اللامرئيين، المرآة التي تخبرنا الحقيقة بفجاجة، و ترينا بشاعتنا و مقدار الجهل و الغُشم و الإهتراء الإنساني الذي نرتع فيه.. هي ثأر المقابر.. هي الكي.
إنها النار التي ألهبها الخذلان…
خذلان الدم لحرارته، خذلان القتل لرهبته، خذلان الجريمة لسريتها، خذلان الطعنة لرجفتها، خذلان اللامعقول للخجل الذي يتبعه،و خذلان العار للهروب و الاختباء…
خذلانٌ أول : الأخوّة..
صرخ شاب في العتمة و هو يقي نفسه مطر الرصاص: “ولكو أنتو أخوتنا..انتو اخوتنا..”
تلك الصرخة حفرت عميقاً في ذاكرة الجموع..إنها نهاية عهد الأخوّة..!
في تلك اللحظة عرف الثوار أن لا أخوة لهم و أنهم “وحيدون في هذا المدى”…
لم تكن جريمة النظام هي المفاجئة إنما أدوات تلك الجريمة و هذا الكمّ من الأخوة الذين يطلقون النار..
لكنّ أشباه البشر أصرّوا على عهد الأخوّة مع السفاح،و أخذوا يمسحون يديه من أثار المجزرة، ينظفون أثرها، تذيبهم دموع السفاح، يقبلون اعتذاره، يؤمنون بالخير المطلق وراء أفعاله.
يريدون إحياء العدم بالكلمات الفارغة قائلين: أنتم من وقف في وجه الرصاصة..
لا ظلّ لهم في أرض الثورة و لا أثر، مطارقهم ما زالت تطرق جدار الصرخة الأولى..
تتلألأ عيونهم حباً و شفقة حين يعالجون أمور السفاح، و تقدح شرراً حين يرون دم المساكين: أنتم الذين لطختم يديه بدمائكم..؟
“الودعاء الطيبون”
الذين تخجل الملائكة من وداعتهم…
بناة الأوطان بالإبتسامة..
معالجو الجرحى بالصور..
محرروا المعتقلين بالتضامن..
الذين يريدون أن يقضوا على نصف قرن من الوحشية والإجرام المنفلت العقال بالوداعة و الحب و التسامح…..هؤلاء:
خذلان العين لدمعها..
خذلان القلب لحقده..
خذلان الانسان لحقيقته الانسان الذي ينسلخ عن مبادئه ليعيش دوامة عقله التبريري، ليصير بلا وزن، يدور في فقاعة مغلقة يتمرغ فيها بفضلات التاريخ، ينبش نظريات بائدة، يتسلح بالسخرية، و بتصغير افعال الأخرين و تقزيم العظيم منها، و بتعظيم السخيف من القول و الفعل، و تحقير الناس للدفاع عن نفسه و عن وضاعته..
يُعلي شأّن التافهين الذين يصفقون لآرائه، مشكلاً جيشه منهم، ليحاربوا السراب بإصرار دونكيشوتي..
خذلان ثان..
بلهفة الاطفال و برائتهم هرعنا نقدم أنفسنا و شوارعنا و غضبنا أبطالاً لقصائد “شعرائنا” نرجو قصيدة تؤرخ المعجزة، اغنيةً تمجّد الحدث، كتاباً يوثق ولادَتنا..
لكنهم أحرقوا قصائدهم القديمة، و ابتلعوا أنفسهم، و لعقوا كل ما قالوا و نظفوا الأوراق من حبرهم و الذاكرة من أصواتهم، و جلسوا كالعجائز في لوحاتهم القديمة يَنشدون جمهوراً أبله..
فأمسى نصيبَنا من الشعر و الفن رداءةً مكتوبة، غموضاً مقرف، خيالاً رخيصاً، بحراً من المفردات الرثّة..
حدث ٌعظيم و مكتوبٌ سخيف.
انّهم خذلان القصيدة مفرداتٍها، خذلان الرواية أحداثَها، خذلان القصة تفاصيلها، خذلان الأغنية لحنها.
لكن غضب الثقافة في الأزقة و الحواري تجمّع على ألسنة و أقلام الثوار، هازئاً بالأصول و العراقة، صافعاً أفواه و وجوه المتشتقدين بهما و أذانهم، مرغماً العالم على التكلم بلغتهم، و الاستماع لأغانيهم، مُقدماً مجانينهم نجوماً للشاشات العالمية..
– خذلان فاضح..المدينة
صرخت المدينة مرة في وجه السكون، فأيقظت السفاح، لكنها سارعت للإعتذار و بالغت في الإنحناء..
لاحقاً أغلقت أبوابها و شوارعها في وجه الثوار، بترت أطرافها، تبرأت من أبناءها، و تكسرت على أعتابها كل محاولات الولوج..
خذلت المدينة ساحاتِها، و شوارعَها، و أسواقَها،خذلت عشاقَها
ظنّ السذّج من أبنائها أن الثورة جميلة و أنها ستحررهم بالمناديل و الورود، و ظنّ السذّج من أبناء الهوامش أن المدينة ستهرع لنجدتهم و تلبي نداءاتهم..
لكنها أعلنت بدلال و غنج “أوقفوا القتل”…
كانت تلك صرخة المدينة في وجه الثورة أن تتأدب، و إعلاناً منها أنها لن تثور، و أنها ضاقت ذرعاً بهذا الضجيج، بروائح النازحين في شوارعها، بهذه الإهتزازات التي تدلق القهوة و تشوش أذنها الموسيقية.
فخرج المحتجون إلى شوارعها و رقصوا و هتفوا ليغطوا على هتافات الرعاع..
أنكرت المدينة بفظاظة معاناتها، و لبست ثوب الأمان، دافعت بشراسة عن تجارة الذل، قالت إنها تشفق علينا من الموت:
-لماذا يموتون..؟
تبنى كثيرون رأي الجالسين على شرفات الأحياء الراقية الذين يشربون القهوة و يستمعون لفيروزيات الصباح، و أغاني تمجيد الوطن الفريد..
و تغنّوا بجمال المدينة و تاريخها و ياسمينها و آثارها و الأمان و رغد العيش..
لكنهم تجاهلوا طفلاً يجلس على حافة المزبلة يقول:ما أكثر قمامة هذه المدينة.
و أماً تحمل ابنها على باب المشفى الحكومي تبكي: ما أشد قساوة المدينة.
و أخاً ينتظر زيارة أخيه في سجنه يصرخ: كم هي ظالمة هذه المدينة.
كان القادمون من البعيد يشتمّون رائحة الجريمة في ساحات المدينة و أبنيتها، و يرون السفاح في أصغر تفاصيلها..
الحنفيات تقطر دماً، الأشلاء على جوانب الطريق، الخيانة تباع علناً، الهواء ملئ بصرخات المظلومين، و أصوات بطون الجائعين تغطي على كلَّ شئ..
لكن أبناء المدينة أنكروا و تغزلوا بالعادية و الطبيعية التي تعيشها المدينة الخاملة، المغرورة بجهلها، الغارقة بسخافتها، التي تشق الباب لتسأل عن هوية الزائر، التي لا تفقه قولاً أو فعلاً، التي وزعت الخذلان على الكوكب، المدينة العاقر، الممانعة للاشتعال، الخانعة، الخاضعة، المطأطئة، التي لا تكتب و لا تقرأ، التي تخلع التاريخ و الهوية بسهولة لتلبس اثواب مغتصبها، التي لا تعرف أصول الحقد، المتنكرة لانسانيتها، الغارقة في دينها ال”ما في شي” “بدنا نعيش” “نحنا ما لنا علاقة”….
و كان الودعاء الطيبون يسمونها إرادة الحياة التي تُميز المدينة، في حين يدفع أهل الأرياف ثمن ارادة الحياة هذه باهظاً..
إنّه أبشع أنواع الخذلان الذي يسجّله التاريخ
خذلان القلب لباقي الأعضاء و خذلان العضو لبقية الجسد..
خذلان الجغرافيا للحدود..
خذلان الدين للإنسان، خذلان الضمير لصرخة الانسان..
خذلان مضاد..
أدرك الثوار أن هذه البلاد بقعة جغرافية اعتباطية، لن يربط بين أبناءها الا الدم المُسال، وحدها المجزرة ستوحدهم.
تقدمت جحافلهم باتجاه التاريخ أولاً لتعيده للصفر، ليبدأ العدّ من لحظة استيقاظهم..
كسروا البيضة و خرجوا منها ليتنفسوا الهواء، أخرجوا أحقادهم و شرورهم للهواء الطلق، لم يأبهوا لمن خرج لهم من قشر البيضة ليتغنى بالأخوّة و الوطن و الشعب الواحد و التاريخ و الحضارة.
قالوا لهم: بحثنا طويلاً عن الوطن، انتظرنا الأخوة، احترمنا الشعب الواحد، تسلّحنا بالتاريخ و الحضارة..
لكن صدى صوتنا مصحوباً بالسخرية المؤلمة و بالطلقات هو الرد الوحيد الذي كنا نتلقاه في كل مرة.
كنا نتجرّع الحقيقةَ طلقةً طلقة، نطلّ على الحياة من نافذة الموت، و في كل مرة نعود من الموت كانت الحقيقة على أكتافنا أثقل و أقدامنا في الارض أرسخ..
علّمَنا الموت أننا لم نكن نلامس الحياة أصلاً، و أن المدن التي قهقهتْ و سخرتْ بصوت عال ستبكي و تصرخ ألماً.
هذا الموت هو كنزنا، هو رصيدنا في بنك الحياة، هو السياسة و الادب و الشعر القادم
نحن السيوف التي جرحت وجه الزمن، نحن المطارق التي هشمت رأس التاريخ، “المعلقون على مشانق الصباح” كنا سعداء بالخذلان الذي نمنحه لأشباه البشر و جوقات المخصيين، كنا نحقن العالم بالخذلان و الحيرة..
سعداء نحن بقدر ما يخيب ظنكم بنا..
الصورة المرفقة: مقطع من تشكيل للفنان لؤي صلاح الدين النص منشور من قبل على صفحات جريدة شام الإلكترونية
نعيد نشره على بناءً على طلب الكاتب تحت تصنيف (كدمات)
موضوع مشوق