في دمشق هناك دوماً ما يملأ فراغ اليوم، علّ هذا هو السبب خلف الجواب الموحّد الذي يأتيك من شبّانها في كافة أصقاع الأرض حين تسألهم عن حياتهم الجديدة ليقذفوا الجواب كطائرةٍ ورقية ويقولوا: “مملة”. وإذا كانت دمشق تعتبر بالنسبة لكَ “ساحرة” هربت من عصرٍ ما، وأنت العاديُّ كالملايين منا، فهي السحرُ في عينه إن كنتَ شاعراً. وإذا كنتَ كذلك حقاً، أو متذوقاً للشعر وحسب، أو حتى صديقاً لأحد متذوّقيه، وقادك الطريق إلى دمشق ذات يوم إثنين ما، فوجهتك واحدة وواثقة حكماً: بيت القصيد.
لم أكن متذوقاً حقيقياً للشعر يوماً. كما أني لا أذكر أنه كان في أي وقت مصدراً للذّة بالنسبة لي مقارنةً بأنواع الأدب الأخرى. مع هذا كلّه خضت مغامرتي الأولى في تلك الفعالية الثقافية، حين كان فندق برج الفردوس مقراً لها. حين وصلتُ، كانت الحانة تشبه كلّ الحانات السورية؛ سكيرون وعشّاق وفقراء ومثقفون ودخانٌ كثيف، وغالباً كلّ ما ذكر مجسداً في كلّ شخصٍ قاده الطريق مثلكَ إلى حيث كنت ذات يوم إثنين في دمشق. حين وصلت كان فاصل “الضوضاء” قد بدأ، وهو كما المتوقع من الإسم، مساحة للضوضاء وتفريغ الضجيج المكبوت بين الحاضرين ليتوقف تماماً إذا أكملت الأمسية مسيرتها. وإن كان بين الحاضرين من لم يحترم السكون الضروريّ أثناء الإلقاء، كان مقدّم الأمسية وعرّابها، الكاتب لقمان ديركي يلسعه ببعض الكلمات الطريفة غالباً، لكنها حتماً كافية لأن يُكمل ذاك المشاغب سهرته عارياً!
هذه الفعالية الثقافية (بيت القصيد) بدأت فكرةً في سوريا واستمرّت حتى عام ٢٠١١. تلك الليلة تعرّفت على شعراء وكتّاب وفنانين من شتى المناطق السورية، قرأ يومها كلّ من الشعراء أحمد قصّار وتمام هنيدي بالإضافة الى الشاعر السوريّ عادل محمود، ليختم لقمان ديركي الأمسية بإحدى أغاني الشيخ إمام، ثمّ نمضي جميعاً بعدها الى الشوارع الدمشقية سكارى ننتظر أمسية الأسبوع المقبل.
حين علمتُ أن “بيت القصيد” سوف يعود مجدداً، هذه المرة في دبي، انتابني سربٌ من المشاعر، علّ أعمقها كان تخوّفاً من أن تشوّه الصورة في مخيلتي لهذا المنزل العتيق المرتبط بسحر دمشق وروّادها. فاستقبلت الخبر بفتور حين وصلني من الكاتب عدنان العودة الذي ارتأى أن تعاد هذه التجربة الفريدة في مدينة جديدة حملت بدورها الكثير من الأحلام والأوجاع السورية وأن تقدّم هذه الفعالية الثقافية لجمهور الأدب من كافة الجنسيات في دبي. وحين زرتُ بيت القصيد الذي تغيّر اسمه مؤخراً لـ “الرِّواق” شعرتُ بحجم الذي كان ينقصنا. فنحنُ السوريون امتلكنا الألم منذ سنوات، وتُهنا كثيراً حتى بات أحدنا يبحث عن من مثله لفظتهم البحار نياماً واستفاقوا على الشواطئ تحيطهم نظرات الشفقة والتعاطف، نحنُ هؤلاء الذين حتى فرحهم بات بطعم الأسى، نحتاج بيتاً حنوناً يملؤه الصخب والضحك والذكريات والصور. لهذا أتانا “الرِّواق” مساحةً واسعةً للحب قبل كلّ شيء، فهنا السوريون ذاتهم الذين عاشوا دمشقَ وبيت قصيدها، ذاتهم الذين جهزوا الأوراق والكلمات ولفظوا قصائدهم أمام مراياهم، وذاتهم أيضاً أولائك الذين رغبوا عن كلّ المغريات الدمشقية الأخرى، واختاروا سماع الشعر، تعلّمه وتذوّقه، وأرادوا من الكلمات لا سواها أن تملأ الفراغات.
حتى اللحظة، أزور المكان في دبي بعين المُشكك لسببٍ أجهله، لعلّه الخوف الأزليّ من كلّ جديد. وحتى اللحظة، لم يكن “الرِّواق” سوى تلك المساحة التي نحتاج وننتظر. سمعنا فيها قصائدَ لشعراء كثر، احتفلنا بذكرى الرحيل لكتّاب وشعراء وفلاسفة من حول العالم، كما احتفلنا بذكرى ميلاد آخرين منهم. فسمعنا قراءةً من مسرحيات الراحل ممدوح عدوان في ذكرى وفاته، وأشعاراً لعمر الخيام وأحمد فؤاد نجم ومحمود درويش وغيرهم. شاركت الفنانة يارا صبري مؤخراً بقصائد لبدر شاكر السياب وقرأ الشاعر هاني نديم مجموعة من قصائده التي تركت في نفوس الحاضرين وقعاً قلّ مثيله. ضمّت الفعالية منذ انطلاقها ضيوفاً كثر من الوجوه المعروفة في الأوساط الثقافية، حيث شاركوا الحضور بالنصوص وأحياناً الذكريات. كما اعتبر “الرِّواق” فرصةً لتسليط الضوء أيضاً على قصائد ساحرة لشعراء سوريين منتشرين في دول المنفى ضمن ملف أطلق عليه اسم “انتو معنا” وضمّت الأمسيات فقرات غنائية وموسيقية يقدمها فنانون تمنى معظمنا لو أننا سمعناهم من قبل. هي فعاليةٌ ثقافيةٌ إذن نحنُ حكامها، نقيّم جيدها من رديئها كلّ حسب معرفته أو حتى ادعائه، لنصل الى نتيجةٍ نهائية حول كلّ أمسية، وننتظر القادم بفارغ الصبر.
أجهل الحقيقة خلف تغيير الإسم من “بيت القصيد – دبي” الى “الرِّواق”. لعلّه يكون الحدّ من المقارنات بين البيتين التي لا أظنها تنتهي حتى بعد هذه الخطوة. أم أن تغير الإسم جاء حفاظاً على نقاء الفعاليتين من اللغط الحاصل حولهما؛ ذاك البيت العتيق في دشق والآخر حديث الولادة في دبي، أم هو سببٌ آخر أجهله. لكنّ الحقيقة الواضحة أمامنا الآن هي أننا كلّ أسبوع، لدينا الفرصة لأن نجتمع ونملأ ساعات السبت الأخيرة بالكلمات والأغاني والضحك، تماماً كما هو جديرٌ بالسوريين أن يحاربوا موتهم البطيء.
لم أكن متذوقاً حقيقياً للشعر يوماً. كما أني لا أذكر أنه كان في أي وقت مصدراً للذّة بالنسبة لي مقارنةً بأنواع الأدب الأخرى. مع هذا كلّه خضت مغامرتي الأولى في تلك الفعالية الثقافية، حين كان فندق برج الفردوس مقراً لها. حين وصلتُ، كانت الحانة تشبه كلّ الحانات السورية؛ سكيرون وعشّاق وفقراء ومثقفون ودخانٌ كثيف، وغالباً كلّ ما ذكر مجسداً في كلّ شخصٍ قاده الطريق مثلكَ إلى حيث كنت ذات يوم إثنين في دمشق. حين وصلت كان فاصل “الضوضاء” قد بدأ، وهو كما المتوقع من الإسم، مساحة للضوضاء وتفريغ الضجيج المكبوت بين الحاضرين ليتوقف تماماً إذا أكملت الأمسية مسيرتها. وإن كان بين الحاضرين من لم يحترم السكون الضروريّ أثناء الإلقاء، كان مقدّم الأمسية وعرّابها، الكاتب لقمان ديركي يلسعه ببعض الكلمات الطريفة غالباً، لكنها حتماً كافية لأن يُكمل ذاك المشاغب سهرته عارياً!
هذه الفعالية الثقافية (بيت القصيد) بدأت فكرةً في سوريا واستمرّت حتى عام ٢٠١١. تلك الليلة تعرّفت على شعراء وكتّاب وفنانين من شتى المناطق السورية، قرأ يومها كلّ من الشعراء أحمد قصّار وتمام هنيدي بالإضافة الى الشاعر السوريّ عادل محمود، ليختم لقمان ديركي الأمسية بإحدى أغاني الشيخ إمام، ثمّ نمضي جميعاً بعدها الى الشوارع الدمشقية سكارى ننتظر أمسية الأسبوع المقبل.
حين علمتُ أن “بيت القصيد” سوف يعود مجدداً، هذه المرة في دبي، انتابني سربٌ من المشاعر، علّ أعمقها كان تخوّفاً من أن تشوّه الصورة في مخيلتي لهذا المنزل العتيق المرتبط بسحر دمشق وروّادها. فاستقبلت الخبر بفتور حين وصلني من الكاتب عدنان العودة الذي ارتأى أن تعاد هذه التجربة الفريدة في مدينة جديدة حملت بدورها الكثير من الأحلام والأوجاع السورية وأن تقدّم هذه الفعالية الثقافية لجمهور الأدب من كافة الجنسيات في دبي. وحين زرتُ بيت القصيد الذي تغيّر اسمه مؤخراً لـ “الرِّواق” شعرتُ بحجم الذي كان ينقصنا. فنحنُ السوريون امتلكنا الألم منذ سنوات، وتُهنا كثيراً حتى بات أحدنا يبحث عن من مثله لفظتهم البحار نياماً واستفاقوا على الشواطئ تحيطهم نظرات الشفقة والتعاطف، نحنُ هؤلاء الذين حتى فرحهم بات بطعم الأسى، نحتاج بيتاً حنوناً يملؤه الصخب والضحك والذكريات والصور. لهذا أتانا “الرِّواق” مساحةً واسعةً للحب قبل كلّ شيء، فهنا السوريون ذاتهم الذين عاشوا دمشقَ وبيت قصيدها، ذاتهم الذين جهزوا الأوراق والكلمات ولفظوا قصائدهم أمام مراياهم، وذاتهم أيضاً أولائك الذين رغبوا عن كلّ المغريات الدمشقية الأخرى، واختاروا سماع الشعر، تعلّمه وتذوّقه، وأرادوا من الكلمات لا سواها أن تملأ الفراغات.
حتى اللحظة، أزور المكان في دبي بعين المُشكك لسببٍ أجهله، لعلّه الخوف الأزليّ من كلّ جديد. وحتى اللحظة، لم يكن “الرِّواق” سوى تلك المساحة التي نحتاج وننتظر. سمعنا فيها قصائدَ لشعراء كثر، احتفلنا بذكرى الرحيل لكتّاب وشعراء وفلاسفة من حول العالم، كما احتفلنا بذكرى ميلاد آخرين منهم. فسمعنا قراءةً من مسرحيات الراحل ممدوح عدوان في ذكرى وفاته، وأشعاراً لعمر الخيام وأحمد فؤاد نجم ومحمود درويش وغيرهم. شاركت الفنانة يارا صبري مؤخراً بقصائد لبدر شاكر السياب وقرأ الشاعر هاني نديم مجموعة من قصائده التي تركت في نفوس الحاضرين وقعاً قلّ مثيله. ضمّت الفعالية منذ انطلاقها ضيوفاً كثر من الوجوه المعروفة في الأوساط الثقافية، حيث شاركوا الحضور بالنصوص وأحياناً الذكريات. كما اعتبر “الرِّواق” فرصةً لتسليط الضوء أيضاً على قصائد ساحرة لشعراء سوريين منتشرين في دول المنفى ضمن ملف أطلق عليه اسم “انتو معنا” وضمّت الأمسيات فقرات غنائية وموسيقية يقدمها فنانون تمنى معظمنا لو أننا سمعناهم من قبل. هي فعاليةٌ ثقافيةٌ إذن نحنُ حكامها، نقيّم جيدها من رديئها كلّ حسب معرفته أو حتى ادعائه، لنصل الى نتيجةٍ نهائية حول كلّ أمسية، وننتظر القادم بفارغ الصبر.
أجهل الحقيقة خلف تغيير الإسم من “بيت القصيد – دبي” الى “الرِّواق”. لعلّه يكون الحدّ من المقارنات بين البيتين التي لا أظنها تنتهي حتى بعد هذه الخطوة. أم أن تغير الإسم جاء حفاظاً على نقاء الفعاليتين من اللغط الحاصل حولهما؛ ذاك البيت العتيق في دشق والآخر حديث الولادة في دبي، أم هو سببٌ آخر أجهله. لكنّ الحقيقة الواضحة أمامنا الآن هي أننا كلّ أسبوع، لدينا الفرصة لأن نجتمع ونملأ ساعات السبت الأخيرة بالكلمات والأغاني والضحك، تماماً كما هو جديرٌ بالسوريين أن يحاربوا موتهم البطيء.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.