قد ينخر في عظمنا حزنٌ لا تعرفه صور الأشعّة .. دفءٌ لا تفسّره الفيزياء في فراش الشهيد .. وحدها الأمّ تحسّه و تلجأ إليه من برود الشاشات .. وحدها لمست خيط الغيب .. وحدها يملؤها الغياب
و قد تنهشنا هشاشة الموقف أمام شهيد يبحث عن أغنيته الأخيرة بين أيدي الملائكة : هل أكفّنه بمنديل البكاء .. أم بصرخةٍ لا يفهمها الباعة في الطريق … ربما من الأفضل أن أغنّي معه .. قد يغضب لو وقفت لأضرب التحيّة بحزم كما يفعلون أمام النسر الآمر بالموت .. !
نخبّئ وجوهَنا آخر الليل .. ملآى بشقوقٍ لا تراها المرايا … يخمشنا الندم : لم أدهش كفايةً أمام المجزرة !
نستعجل القيامة قبل الفجر … تنهكنا قبل الحلم خطايا لم يكتبها رقيب الآخرة : ضحكت أكثر مما ينبغي … انشغلت بالخصر العابر عن تذكّر اسم شهيد داعل .. لم تكتب في تهنئة زواج صديقتك عن مظاهرة دوما … لم تنتحب في السوق حين وصلتك الرسالة ” 53 شهيداً على الأقلّ ” خفتَ على أناقتك , كلّهم ماتوا بثياب لم تعرفها المكواة , ولكنّهم على خلافك عاشوا بوجوه لم تعرف أقنعة الستر .. سمعت أم كلثوم أكثر من الساروت … كانت وجوههم متشقّقةً وراء المذيع بينما تشرب شاياً لم يعرف طعم الملح !
في كلّ يوم – نخفي ذلك حتى عن أنفسنا – تتجاذبنا شهوات لم يحتلْ لها الشبق … تغرق في عمق الآهات .. و تجتاحك هستيريا حركات لا تفهمها الأيدي في أوج ما اشتعل بك من الجسد الممدّد … و تعضّ على الشفتين … و تصرخ : لماذا لم تجعلني مكانه يا قدر الرصاصة .. ؟!
شهوة الألم أن تكون رقماً في شريط الأخبار يبكي عليك من لا تعرفهم … شهوة المكبوت لو لم يكن الهتاف الأوّل و ارتحت من عبء إحصائهم كلّ مساء … شهوة الفجيعة لو خُلقتَ حزاماً ناسفاً حول خصر الحكم … و الخصور الكثيرة التي تحمله فوق ركام الجثث … شهوة النسيان لو بإمكان طعم الماء أن يخلو من النزيف … شهوة الوطن : ألّا ينساك من حفل الخالدين !
كان فرحاً لا تتقنه السينما حين اجتاز بربطة الخبز الحاجز الأخير .. قبل منعطف العائلة الضامرة .. سُمع صوتٌ اعتاده منذ شهور .. ربطة الخبز ما زالت ساخنة و شهيّة من أثر الركض .. لم يغيّرها الصوت … لكن في جيب الصدر الذي وضعت فيه الفكّة الباقية في القميص الواسع … كان ثمّة ثقبٌ جديد … غدا نبعاً … لم يأكلوا خبزهم اليوم .. لكن الوطن تدفّق بشهيّة لا يعرفها من يشربون العار !
كانت رسالةً لم يكتبها الدم … كان قد جفّ و تيبّست طبقات لا يروي عنها الطبّ على اليد التي هرستها -قبل الغيبوبة- كراسيّ و بساطير لم يذق غضبها ترابُ الأعداء … في التحقيق لم يبحث عن باب للنجاة … ولا عن لحظة النهاية – هناك كلّ لحظة أبد – …. و كان قد يئس من ملاك الموت منذ صعقة الكهرباء الأولى على عضوه الذكري … كان يبحث عن سؤال !
الكتابة على جدار الانفراديّة تتجاوز ترف الضرورة … الكتابة هناك معناك الأخير المتبقّي من مفهوم الإنسان .. وسيلتك الأخيرة لتمسك سيولة الزمن .. بالمتبقّي من الظفر الأخير … !
جروح كثيرة في مدفن العتمة و السكون المطلق .. لم تعرف رفاهية تأمّلها عيناه .. سيفلسف الأمر في هلوساته التي أضحت الواقع الوحيد و يقول إنّ ما لا تراه لا يكون … يحمل وجهاً لم يعرف بعد آخر أشكاله … في الانفراديّة ليست الجدران وحدها ما تستخدمه للكتابة … !
كان طالبَ فيزياء لم تعرفه امتحانات السنة الأخيرة … كان قد انشغل بامتحان آخر … أثبت فيه لأنشتاين في محاوراتهما الطويلة أنّ الزمن مثل الرصاصة مثل القلب مثل الضمير مثل الوطن يتوقّف أيضاً …
كان طفلاً لم تعرفه المدارس … فيه كلّ ما في الأطفال الآخرين : ضحكاته البلهاء , عضوه الصغير , بحثه عن اللعبة بين الأيدي التي تتلقفه , بكاؤه حين تدخل أمّه الحمّام , و عبثه بفتحات الكهرباء … كانوا جميعاً يبكون بينما ملأه وحده الصمت .. بين السكّين و الرقبة مسافةُ أمل يمزّقه الفزع … بين الحدّ و الشريان حشرجة الهزيع الأخير … بين العين و بريق النصل يتناثر بجنائزيّة أوراق الخريف ضوءُ العالم .. !
كان طفلاً صغيراً … حرس سكونه طويلاً أمام ضجيج و صيحات و انبعاثات دم لا يفهم منها شيئاً … حين أمسكته اليد الأخرى كمساعد ذبح يتقن عمله .. لم ينس عضوه الصغير أن ينفّذ المهمّة الكبرى :
تبوّل علينا جميعاً !
تعمّدنا القيامة .. لا لشيء .. إلّا لنحطم ما اتخذه الجحيم من مكياج الزيف .. و ما غُطّيت به الجنّة من أردية الخوف … قمنا من بين الصامتين .. و شربنا من كوثر الهتاف .. و سلكنا صراط الدم حدّ اعتياده … فقط
و سنبلغ الأبواب كاملين بكلّ ما نقص منّا في الطريق !