.
عندما تزول الأنظمة الديكتاتورية تتحول بديهيات المجتمع في لحظة إلى طقوس غريبة و غير مفهومة في أعين الأجيال التالية.
أحاول فيما يلي قراءة لما يلحق بمتلازمة استوكهولم، المصطلح الذي لا ألمح فيه أكثر من محاولة تصنيف، ولا يضيف بذاته في رأيي أي فهم لنزوع الضحية للتماهي مع المعتدي.
التراجع عن السلوك المكتسب في مرحلة الخضوع للغاصب يقتضي إعادة معاينة الغصب والاعتراف به من حيث هو كذلك، واسترجاع ومواجهة ما ارتكبناه من خضوع تحت مسميات الحكمة والعقلانية والرغبة بالعيش والواقعية. فالتراجع يقتضي مواجهة واسترجاع لحظات سماتها الأساسية تجنب المواجهة وعدم توقع قدوم لحظة استرجاع، فمرجعيتها النظرية إن جاز التعبير: عدمية تنفي إحتمال قدوم لحظة مراجعة مستقبلية، إذ تتسم بالتأسيس على غياب المواجهات الذاتية وتفكيك إمكانية التفكّر الذاتي وحيونة الانسان بمعنى تحويله إلى كائن متشبّه بالكائن الغريزي، فهو غير نقدي وغير مراجع لذاته يحصن نفسه ضد النقد والمراجعة الذاتية باتهامهما بالتعالي والتلاعب اللفظي والفكري وتمرير المؤامرات والأفكار الخبيثة بلبوس مثقف ومواجهة (تهديدهما) بالشتائم والعدوانية الاستباقية والبارانويا المقبولة جمعياً.
في لحظة زوال الديكتاتورية أو تهديدها بزوال وشيك يجد كثير من (الخاضعين) لها أنفسهم مواجهين من قبل آخرين محكومين بفهم (واقعي) مختلف. فلا يعي أولئك الآخرون أن ما يبدو لهم اليوم جزءاً لا يتجزء من الحاضر والمستقبل بدا (لنا) آنذاك، وبنفس الطريقة البديهية، مجرد وهم. فيصير المطلوب من ضحايا الديكتاتورية محاكمة وإدانة لمرحلة من الحياة قد لا تكون قصيرة. فالخضوع للديكتاتور أو للمعذب أو المغتصب يتضمن تواطؤاً مع الذات و/أو مع المجموعة التي تخضع للمصير ذاته على مجموعة قيم تنطلق من اعتبار الظروف الواقعية المفروضة غصباً (صنعياً) ظروفاً (طبيعية)، وهدف هذا التواطؤ التوصل إلى معادلة كبرياء اصطلاحية غير مفهومة ممّن لم يختبروا هذه التجربة.
الإدانة الكاملة والمفاجئة لمرحلة الخضوع للغاصب تتضمن عدا عن إدانة الذات الاعتراف بكون الآخرين الذين لم يمروا بالتجربة المذلّة أكثر طلاقة، وأنهم لم يخسروا الشيء الكثير بتجنبهم هذه الخبرة. وبما أنهم على الأغلب أصغر سناً، فهم يهددون حتى بانتزاع احترام من هم أكبر سناً، لنشعر أن الديكتاتوريين والجلادين والمجرمين والمغتصبين ربما أكثر رحمة (بنا) وبكبريائ(نا) من أولئك الشبان الثائرين.
وطبعاً هناك أشخاص رفضوا إلى حد كبير الانصياع للعبة الغاصب، وقدموا في سبيل ذلك تضحيات مختلفة، وخاصة على المستوى النفسي، فعوملوا لفترات طويلة على أنهم قفاة أوهام ناشزون، و بينما تجد هذه الفئة نفسها في مرحلة سقوط الديكتاتورية في برزخ حدودي بين الواقع وتحقق الأحلام، تجد الضحية التقليدية للديكتاتورية نفسها، هي التي اعتبرت العاديّة والاندماج في القيم السائدة مثلها الأعلى ومرجعيتها الأخلاقية وتعاملت مع النقد والتفكر الذاتي على أنهما في أحسن الأحوال غرابات مثقفين، تجد نفسها تنزح نحو الهامش الغرائبي الذي أفردت النماذج (المريضة) سابقاً فيه.
وبينما كان غرائبيو الماضي مشغولين بأحلامهم محكومين برؤيا موسومة بكونها يوتوبية، يجد ضحايا الديكتاتورية أنفسهم مستحوذين بحنين إلى زمن زائل يدركون قبل الجميع فساد محتواه و خرابه و كونه لن يعود. ليشكلوا تجسيداً و فهماً جديداً لمفردة الرجعية.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.