صديقي يا فرات. كنّا نخافك، لكنّا نحبُّك، أتذكر يوم كدت تخطفني! في تلك الظهيرة حين زارني أصدقائي قادمينَ من الحسكة، أردتُ أن أريهم كيف نتماهى معاً، لم يُعجبك الأمر، ربّما كنت أصغرَ من أنْ أنسج معكَ حكاية، فأردتَ ابتلاعي، لكنّ ذلك لم يُغيّر شيئاً من علاقتِنا، ما زلتُ أُحبّك. سأصارحُكَ بهذه المناسبة بأنّي لا أُحبّ البحر، ليس لأنّه ابتلع سوريّين كُثر، بل لأنّي أراه مراهقاً طائشاً، وبقلبٍ تنقصه الجرأة، أتخيّله دوماً يُمسك بيديه جعةً ألمانيّةً، ويترنّح على صخب الـ”دوب ستيب”، يلولح برأسه حتى أظّنه يريد التّخلّص منه، يحاولُ مراقصةَ كلّ نساء الحانة، ويحتقر المُتَمنّعات، وينفّر العاشِقَينِ الّلذين تَراقَصَا وتَلاحَمَا وتَمَازَجا وتَغَازَلا حتّى غَدَوَا كمزيج البُرغل الأسمر والهبرة النّاعمة جدّاً بيدي خمسينيّةٍ تجيد صُنع الكُبّة. أمّا أنت فخمسينيٌّ وقورٌ، بوجهٍ جميلٍ متغضّنٍ بخطوطٍ تُؤسّس لرسمٍ تكعيبي، كان يشغَلُ منصباً في الحكومة، أحالوه إلى التّقاعد في عزّ شبابه، لأنّه كان ذكيّاً في دولةٍ ساذجةٍ يحكمُها العسكر، تشرب الويسكي، وتدخّن كثيراً، سجائرُكَ برائحةٍ رجوليّةٍ يَتَمازجُها عطرُكَ الشّتائيّ الثّقيل الوقور، ترقص على أنغام ايديت بياف، تروقك النّساء ولا تذهب إليهنْ، يمنعكَ الكِبر، ذاك الذي منع سادات قريشٍ من اعتناق الاسلام، تمشي درباً واحدةً، وتسمع أغنيّةً واحدةً لشهرٍ كامل، وتحبُّ ألف امرأةٍ في الّلحظة الواحدة، تحبُّ ماركس وتكره الشّيوعيّين، تسكُنك بساطة شيخ امام، وعبثيّة ألبير كامو، تنتمي للأرضِ وتناصر قضايا المظلومين بصمت، تحقِد على البرجوازيّة التي خانت ذات يومٍ البروليتاريا، مع أنّك من رعيلها، تحبُّ شهقة الطّفل الأولى، ويُبكيكَ أنينُ العجائز، تحبُّ شِعْرَ الجّدّات الحزين، وتروقك جدائلهنَّ المحنّاةُ والوشومُ الخضراء على جباههنّ وذقونهنَّ، حين يجئنكَ معاتباتٍ على خطف الأخلّةِ كما صوَرتهنَّ ميّة الرحبي في روايةٍ أسمَتْها باسمك واسم صبيّةٍ من صباياك. أراك كما لو كنتَ شخصيّةً روائيّةً سبكتُ تقاطيعها وتلاوينها وأحاديثها وأحداثها بنفسي.
كلّنا ننتمي إليك، لكنّنا لم نخرج جميعاً من رحمك، نساؤنا منك، ونحن من الأرض التي ظلّت تناءى عنكَ حتّى تبدّت. في ديرالزور التي تشجُّها كسيفٍ هنديٍّ يحمله غزاةٌ مماليك، ننسج فيك الحكايا، ونصدّق عنك الأساطير، لكلِّ واحدٍ منّا معك قصّة بهلول إميل زولا مع زهرة المياه، إلا أنّ نجماتِ صباحاتِنا لا تطلع البتّة، فلا نموت ولا أنت تموت، ولا تنفكّ الثغور المتلاصقة أبداً، نتململُ من التّاء المبسوطةِ في آخر اسمك حين نناديك، نبدلها هاءً عشقيّةً رقيقةً بالكاد تُنطق، رغم أنّنا أجلافٌ جبلتنا البادية من شوكٍ وعجيج، وتفتّقنا من أرضها ككمأةٍ عزيزةٍ وحلها أثقل منها، والغزل ثقيلٌ في شفاهنا، رغم أنّنا نولد عشّاقاً، عشّاقاً صامتين، نُخبّئِ الأقلام التي أعرناها للفاتنات بين البطّانيّات المحشوّات بصوف الماعز، كما لو أنّها أفلامٌ إباحيّة، نشمُّ فيها عَرَقَ أيادي الصّبايا السّمر، ونخشى أن تكتشفها أمّهاتُنا، نختلقُ الذّكرى والتّذكار من العدم.
أمّا نساؤنا فبناتُ جُرفِكَ، ووليدات ماءك الحَصيرِ على الحصاة الّلواهب، شقيقاتُ شجيرات القطن على حوافِ سريرك، ربّات الخصب، وجارات سُرّة الفرس في ليلةٍ لا سديم فيها، يلدننا واقفاتٍ كساريةٍ وطنيّةٍ غداةَ عيد الاستقلال، غير عابئاتٍ بالدّمِ المُتطافح ووديق الشّمس الغزالةِ في سماواتِك، يطوّقن نحورهنّ بالزَّبُوْنِ(1)رداء مصنوع من القماش يُطرّز بألوان زاهية القروي الذي ينام فيه الرّضيع، ليحصدن الحنطة عن جنبيك بمناجلَ حلبيّةٍ كُتِبَ عليها “لا تصدَأ”، ذاك الزَّبُوْنُ بألوانه الصينيّة سريرُ طفولتنا، يتحدّثن بشبيهِ شجوِ النّاي على ثغرٍ عنّابيٍّ تسايل منه لَمَى ملازمةِ الخشبِ العتيق، يواسينَ كليمَ الفؤاد بـ”لا عاش گَلْبي عليك يا عيني”، منهنّ الأرض الصّلبة التي قد تحمل جبلاً، ومنهنَّ أُخرى تخزقها قَدَمُ النّحلةِ من فرط هشاشتها، شَرِبْنَك أغانٍ حزينةٍ ينشدها راعٍ بتقسيماتِ ربابةٍ تجيدُ صوتاً واحداً، ووزّعْنَكَ دمعاً تُلازِمُه أبياتٌ تليقُ بالموتى والرّاحلين، وتليق بأرضٍ تعوّدتِ الفجيعة والرّحيل، في ديرالزّور.. الرّجال من البادية، والنّساء من الفرات.
راحَوْا وخَلّونا بَعَدْهُمْ
ويَا الأجواد خَانَوْا بِوَعِدْهُمْ
راحَوْا وخَلّونا بْبَعَايِدْ
وْتَرَى صاحب النَّامُوس غَايِبْ
يا يمُّه و وسْدِينِي زُبُوْنِيْ
تَرَى الْمُوت غَشَّى عَلَى عْيُونِيْ
قالوا ضَفّكَ الموتُ، وضَفَّكَ الجوع والحصار، ضفّتك الِّلحى والرّتبُ العسكريّة، وأوامرُ الكولونيل الأصهب، أعطى الأخُ الجارُ لأولادكَ جاروفاً في البوادي ليحفروا قبوراً ينامون فيها تحت المطر في مخيّمٍ أسموه “رجم صليبي”، وألفيناهم مكفهرّين على الشّاشاتِ المُكْفهرَّةِ يصطفّون في صراطٍ طويل، يحلمون بشراء ربطة خبزٍ بحجم رغيفٍ ممّا يخبزون في تنانيرهم الطينيّة، مسّهمُ السُّوءُ فتوشّحهُم الحُزن، مع أنّهم في حضرة من يُعلونَ زرادشت نبيّاً، وهو رقيقُ القلبِ العطوفُ السّمح، الذي لم يذهب للحرب مُقاتلاً، بل ناكئاً لجراح المُستَضْعَفين، معلياً لواء إله النّور الأوحد. نعم، قالوا ضفّك الموتُ والجوع، تحوم الطّائرات فوق أطفالك المُسَتَّفينَ كأكفانٍ مكشوفةٍ من الحلوى كما لو أنّها زنابيرٌ لا تنتجُ عسلاً، تلك صُنعت في الأرضِ الاشتراكيّة تهدمّ حيّاً كانت تميلُ على وَقْعِ حِذَاء النّياقِ شبابيكُه، وهاتيك أتت من أمريكا القصيّةِ لتهدم جسوراً شُيّدنَ من خشبٍ وحبال، والطّائرات الوطنيّة ما زالت تؤدّب الوطنَ الفاجر، وواحدةٌ خجولةٌ تلقي بسمك السّاردين باسم الانسانيّة والحضارة. أمّا أنت فكنت تضِفُّ القلوبَ المتراميات كعبّاراتٍ بين الجُرفِ والحويقة(2)لفظ يطلق على الجُزر في نهر الفرات، حيث صهيل الخيول البرّيّة طبولَ حربٍ من أوزانٍ وبحورٍ وقوافٍ، حروب أهليك على الخيل صراع الرويّ المُشبع وألف الإطلاق الثّائرة على النّحو، لا يردُّ الصهيل عالمٌ بأصولِ الّلغة العربيّة مهما لحنَ الخيلُ، مع أنّ العربَ تأبى بعضَ الشّعر وترُدُّه، كنت تَضِفّ بيوت اللَّبن المُشرَعة للرّيح تسترُ أبوابَها بطانيّاتٌ عسكريّةٌ قديمة، كانت خلاصة الحصار الكاذب وحربِ لبنانَ المرصوفِ في أسواق الحراميّة، كنت تضفُّ الخِضرَ ذي الملاحم المُنتظرة، وهو يضفّك في الشّموع القاطرات على الفلّين تحملها الأراملُ والثّكالى تحت عباءاتِ الحَبَرْ(3)العباءة النّسائيّة التّقليديّة في ديرالزور، كئيبٌ ذكرُك يا فرات، تمنّيتُ لو قيلت فيك أُهزوجةٌ لا عويل فيها ولا نحيب، مَقامُك الجَزَعُ ومُقامُك أيّها الخضيبُ منذُ عبرك الصّليبيّون أوّل مرّةٍ فاستساغ ذلك كلّ الذين أرادوا مُلْكَ الأرض بعدهم.
قد ضَفّك الموت لأنّنا تجرّأنا على الحُلُم، وربّما ضاع حُلمنا يا فرات، ضيّعناه أو سرقوه، لم يعد الأمر مُهمّاً، سأُسرُّ إليك بحلمنا القديم، في الواقع كنّا نحلم بأشياءَ كثيرةٍ: بأفواه كبيرةٍ لا تُفضي للزّنازين، برؤوسٍ لا تعلوها أقدام، بمَخْبَزٍ كلُّنا سواءٌ في طابوره، بشعبةِ تجنيدٍ لا سُباب فيها، بخدمةٍ عسكريّةٍ لا ندخلها أغراراً ونخرج منها زِعْراناً، بضابط أمنٍ لا يُحبُّ السّمن العربيّ ولا يُهيّمُ زوجَته الذهب، بموظّفٍ حكوميٍّ لا يقرط ذُبَابَةً كلّ صباح، بحيطان صمّاء، بمذياعٍ لا يكذُب، بزاروبٍ لا رفاق مناضلين فيه، كنّا نحلم أن نلتقي بأمينة، تلك الجميلة التي بيديها نفط بلادنا، أن يحترمنا العَلَم المُمزّقُ حين نؤدّي له التّحيّة. أمّا اليوم، فنحلم أن يكون لنا علمٌ لم يتبوّل الدّاعمون فوقه، أن يَمِيْزَ الرّجلُ الأمردُ في موسكو الإرهابيَّ من المُعتدل، أن تختلف لحيةُ المُجاهد عن نَسْرِ الفريق، أن لا تصبح عناوينُنا الحاليّة دائمةً، أن يقتنع المُجاهدون الشّيعة أنّ الحُسين قد قُتِلَ قبل تأسيس الجّمهوريّة السّوريّة، وأنّ لجان التّحقيق الدّوليّة لم تجد جواز سفرٍ سوريٍّ في المَوضع الذي سُبيت فيه زينت، ولي أحلامٌ تخصّني يا فرات.. أريد أن أرى أُمّي المُحاصرةَ بقربك، أو أنْ أكلّمها بضع دقائقٍ كلّ ثلاثة أشهرٍ لتطمئنّ أنّي أتناول الفطور قبل الذّهاب إلى الدّوام، وأنّي ألبس بنطالاً داخليّا يقيني البرد، وأنّي أتغطّى جيّداً بلحافٍ سميكٍ حين أنام، أن يُعاملني الآخرون كبشرٍ سويٍّ حين أُخبرُهم بأنّي سوري، أن يحبوني أو يكرهوني، أن يشتموني أيضاً، تُزعجني اهتزازةُ العُنُقِ وإطباقةٌ الجَّفْنِ إشفاقاً عليّ، فأنا مثلهم، تماماً مثلهم..طيّبٌ وشرير وعابثٌ ومتواضعٌ ومتكبّرٌ وحاقدٌ ومتسامحٌ وحقيرٌ وملائكي، أحمل كلّ الذي يحملونه من صفات، ربّما أزيدهم بأن لي أرقٌ متواصلٌ اسمه “قضيّة” وهذا ما يتشاركُه جميع الحمقى في هذا العالم، أحلُم بأن أكون انساناً وفق معايير الأمم المتّحدة، وأن أراك يوماً ما.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.