الصفحة الرئيسية / نصوص / شهادات / كأنني أدخلُ في غيبوبة.. كأنّها أضغاثُ قذائف

كأنني أدخلُ في غيبوبة.. كأنّها أضغاثُ قذائف

  تمّام هنيدي 

 

مساءٌ باردٌ بعضَ الشيء هنا في الشمال، حيثُ يمكنُ أن تكونَ حيادياً حتى عن مشاعِرك، لا لشيء سوى أنّكَ لا تجدُ الوقتَ الكافي لغير ذلك، فالأولوية هنا للبحث عن بضعة ألسنةٍ من دفء لكساء الروح التي تحاول أن تبقى روحاً رغم الرصاص الذي يخترقها من كلّ جانب..

يصادف اليوم ذكرى نكبة فلسطين “التي ما زالت نكبةً رغمَ كل ما يحيطُ جغرافيتها من نكبات”.

صديقةٌ من دمشق – أرض النكبة الجديدة – ترسلُ لي أغنيةَ جبل الباروك،

في الحقيقة لا أعرف كيف، ولكنني مؤمنٌ أنّ لكلّ سهمٍ رأس، وقد تكونُ كلّ هذه الظروف التي تشبهُ مشهداً من مشاهدِ فيلم سينمائيّ عن الحرب العالمية الثانية، هي رأس السهمِ الذي يتقدّمُهُ ليفتتحَ الجرح.. الجرح الذي لم يندمل منذ زمن، ولا أعرفُ إن كانَ سيفعل ومتى..؟

أشياء كثيرة في هذا المشهد تذكّرُ بك،

الطربُ في أغنية جبل الباروك “والارتفاع الشاهق للجبل أيضاً”، ذكرى النكبة، الصبية الفاتنة التي أرسلت الأغنية، دمشق، البرد هنا في الشمالِ الذي يحوي غرفاً مثل كبائن الهاتف العمومي تقي البشرَ من خطرِ الدببة المحتمل (الخطرُ هنا في الشمال يأتي من الدببة)، الحرب العالمية الثانية، والثالثة.. والرابعة….. الحرب

 

– أنتَ هناكَ الآن، فعلتَها لا كالأبطالِ فقط، إنما كالفرسانِ المجانين، مكتملَ مفرداتِ الفروسية ذهبت، شيء يذكرني بسيرِ أناسٍ سمعتُ عنهم كثيراً مذ كنتُ طفلاً، قيلَ لي مرةً أنّ اللواء زيد الأطرش شقيق سلطان باشا الأطرش، الذي كانَ من رجالاتِ الثورة السورية الأشدّاء، وكانَ شاعراً شجاعاً هو الآخر، جاءَ من وادي السرحان إلى بلدته “القريّا” ليلتقي الصبية التي كانَ يحبّ، وكانَ مطلوباً للإعدام من قبل السلطات الفرنسية آنذاك.

هذا النمط الجنوني من السلوك لا يكفيه رجل ولا يكفيه شاعر ولا يكفيه شجاع ولا يكفيه محبّ، أظنّها أشياء يجبُ أن تستقيمَ في شخصٍ واحدٍ كي يحدث فعلٌ كهذا.. ولا أظنني أخطئ إن قلتُ أنّك من هذا الطراز من المجانينْ.

**

الحديثُ عن “وائل سعد الدين” يختلطُ عليّ أحياناً بينَ أنّهُ يشبهُ قارورةَ جبرٍ ما أن تُفتحَ حتى تخرجُ العناصرُ منها دفعةً واحدة، كما المثل الشائع في بلادِنا (سيرة الجيش مثل سيرة الأفاعي لا تنتهي)، وبينَ أن يكونَ مشابهاً لمستودعٍ تخزينِ النبيذ بما يحويهِ من لغةٍ شعرية.

اختلاطٌ بينَ المادةِ وبينَ الحسّ، يشبهُ اختلاطَ الشرقِ التحليليّ بالغربِ التركيبيّ في قصيدةٍ واحدة، قصيدة لا بدّ لها أن تكونَ حرّة بالضرورة, فالحريّة وطنُ المجانين كما هيَ وطن الشعراء، وفي روايةٍ أخرى… هي أرضُ القصيدة.

**

بشكلٍ مستهجنٍ أحياناً استندَ وائل إلى الوجوديينَ في تعاطيهِ مع الحرية، أو يصحّ القول أن الحرية استندت لهم في تعاطيها معه، حيث أن “لعنة الحرية كانت ترقد عليه شاء هذا أم أبى”، وكأنّها لم تكن حريةً حرةً، كانَت ملتصقة به كاسمِه تماماً أرادَ ذلكَ أم لم يرد. حرّاً من كلّ شيءٍ عاش، حتّى من حريّتهِ في أحايين حيثُ كانَ من غير المستغربِ أن ينقلبَ الشاعرُ المجنون إلى واحدٍ من طلّابِ مساجدِ دمشق، الأمر الذي لم يدم طويلاً لكنّهُ كان!

ولأنّ وائل يجيدُ التعاطي مع كلّ جزءٍ من تفاصيلِ حياتِه، فقد استثمرَ تلكَ الفترة من حيث يدري أو لا يدري في قصيدتِه، فمن يقرأ وائل يعلم تمامَ العلم أنّ الموروث اللغويّ الصوفيّ متغلغلٌ في شخصِهِ وقصيدتِهِ معاً. وهكذا وبخفّةٍ لا يجيدُها إلا من هوَ مثله يتحوّلُ الشاعرُ إلى ناسكٍ فمتدينٍ أحياناً، ثمّ ينجو نهائياً ويعودُ شاعراً..

**

علاقةُ وائل بفكرة الوطن كانت تلتبسُ بعضَ الشيء في قصائده، لأنّها أساساً ملتبسة في تفكيره، فهوَ يدرك أنّ هذه البقعة المبتلاة من الجغرافيا فُصّلت على مقاسِهِ تماماً، ويعرف أيضاً أنّهُ وفي لحظةٍ من اللحظات قد يهربُ من كلّ شيءٍ ليعودَ إلى انتمائهِ لبركةِ ضيعتِه التي لطالما راودته، ولكنّهُ وفي الوقتِ نفسِه يدرك أنّ هذه الأشياء ليست وطناً، ولا يمكنُ أن تكونَ لوحدِها وطن.

لذا نحَت قصائدُه مناحياً أكثرَ اتساعاً من البعدِ الخرائطيّ الممنهج الذي كُرّسَ في لا وعيِ الجماعةِ عن الوطن، واتّجهت لتشكّلَ وطناً من اللغة نفسِها، من مفرداتِها وموسيقيتها وتراكيبِها وطعناتِ المجازاتِ الرحبةِ فيها، سكنَها وأدمنها، فصارَ من الممكنِ جداً أن يعرفَ كلّ من يعرف وائل قصيدتَهُ إن وجدَها في مقهىً أو حانةٍ في دمشق، صارت لغتُهُ الجزلةُ وشماً، وصارَ يُعرفُ من خلالِها، فاتّخذها وطناً حقيقياً تؤثثهُ بعضُ الأماكنِ الدمشقية الأصيلة.

لكنّ أحداً لم يعرف أنّ وقوفَ وائل إلى جانبِ الثورةِ السورية لم يكن من زاويةِ الوطن الملتبس، لكنّ من زاوية مسألةَ الكرامة، التي كانت مفهوماً نهائياً مصمتاً بالنسبةِ لهُ كما بالنسبة لكثرٍ ممّن أخذوا الموقفَ ذاتَه، ولم تكن هذه المسألة جديدةً عليه، فالرجلُ الذي أشعلَ يوماً ما صحبةَ مجموعةٍ من رفاقٍ لهُ مدرجَاتِ جامعة دمشق أيامَ كانَ المعدنُ الأمريكيّ يفرضُ على أساطير بابل سطوته وسطوةَ الحاضر على التاريخ، لم يكن ليتوقّفَ عند هذا الحدّ، إذ أنّ الكرامةُ لم تكن مفهوماً مدرسياً درّستهُ كتبُ القومية، إنما كانت مسألةً إنسانيةً أولاً، وشعرية ثانياً في تجسّدها المحكمِ مع مفهوم الرفض..

تبلورت الصورة الآن، فالشابُ الذي كانَ في العشرين يوم وقفَ وصرخَ في مدرجاتِ الجامعة “بغداد ليلكة تنامُ على وطن”، عادَ ليقفَ إلى جانبِ اللبنانيّ الجنوبيّ المغدورِ من أكثرَ من رجل والمطعون بأكثر من سكين, ثمّ تتالى هذا الوقوفُ المحكمُ مع الرفض إلى أن وصلَ إلى مكانِهِ الطبيعيّ حيثُ ثورة أبناء الذاكرة الواحدة والأماكن الواحدة.. فكانَ أن تابعَ في سياقِهِ الطبيعيّ المرسومِ بدقّة وبحرية مدهشة نحوَ رفضِهِ الدائم المنفلتِ من كلّ عقال.

ولم يكن لهُ أن يوسّعَ الحيّزَ بينَ ما يفكّرُ بهِ وبينَ ما يفعلهُ حقاً، أو أن يبتعد عمّا كتبهُ يوماً كخيالٍ شعريّ وصارَ لحظةً تاريخيةً حقاً، فهوَ من قالَ يوماً في مقطعٍ من قصيدةٍ في ديوانِهْ الوحيد “المخامر الأخير” (يا الله كم يشبهُه هذا العنوان):

“إني لا أطلبُ منكَ ما لا طاقةَ لنا به

فجّر قلمكَ فقط

تلطّخ قليلاً بالحبر

واجمعنا معاً لنعلنَ ثورةَ البياضْ.”

وهنا يبدو جلياً أنّ وائلَ لم يلتبس عليهِ لونُ الثورةِ التي يشتهي، إذ أنّهُ ميّزَ جيداً أنّ اللونَ الأحمرَ فيها لم يأتِ طوعاً، إنما نتيجةً طبيعيةً لتلطيخِ الثورةِ البيضاء بالدمْ.

وقفَ وائل بشجاعةٍ وصلابة خلال الثورة، لم يترك لحظةً تفوتُهُ من مراقبةِ دمشق تحترق، والرفاق يمضونَ مدججينَ بالزغاريدِ إلى مستقرّهم الأخير، وبحرقةِ شاعرٍ كانَ يكتبُ عمّا أثقلَ ويثقلُ كاهله من مشاقّ احتمالِ كلّ أسبابِ الموت من أجلِ سببٍ واحدٍ من أسباب الحياة: الهوية.

يكتبُ وائلُ بحسّ مرهفٍ وغريزةٍ شعريّةٍ لا تخطئ:

“هل كان ينقصني رصاصٌ كي أودّع شاعراً في داخلي عاشرتهُ و حفظتهُ

فأصاب منّي مقتلاً و قتلتهُ ؟

هل كان ينقصُ كفّيَ السّكرى بإمرأةٍ و نكهةِ خصرها ليلاً

و نقر الصبح في الكيبورد والكتب الثمينةِ … أن تشدَّ دريئةً بشريّةً !!

تحنو عليها ثمّ تلمسها لتعرف كيف طار الخدّ من عُهر الشظيّةْ؟

هل كان ينقصُ حيّنا خمسون صاروخاً لأفهم لعنة الدنيا و ترتيبَ الحروفِ الأبجديّةْ؟

هل كانَ ينقصني جنونٌ واضحٌ كي أدفن المعنى و أنتشلَ الهويّةْ؟

هل كان ينقصني وداعٌ سافلٌ لأصيح ملء الكون …. أينَ البندقيّةْ ؟!!”

***

ولكي يكونَ للحكايةِ أبعاد شعرية عدا عن الأبعادِ البطولية، يعتقلُ الشاعر وائل سعد الدين، يعتقلُ الرجلُ الذي أقنع كثيرينَ بالشعر وورّطهم به، وكنتُ من بينهم، يعتقلُ في اليوم ذاته الذي أقرأ فيه قصائداً في صالةٍ حميمةٍ هنا شمالَ العالم، فيصفقُ الحضورُ ويعانقني بعضهم.. أي مفارقةٍ بخسةٍ هذه؟ أي تواطؤ دنيء مع الفساد واللاعدل؟

اعتُقلَ وائل، وصارَ للشعراءِ واللصوص والحالمينَ أن يكتبوا فيهِ الكثير، كأن يكونَ أحدهم جالساً في الشمالِ القصيّ البارد يحاولُ أن يجدَ أيّ دفء لا يأتي من حرارة القذائف، يستمعُ إلى أغنيةِ جبلِ الباروك التي أرسلتها له صبية فاتنة من دمشق، ويرى في كلّ هذا مشاهدَ من فيلم سينمائيّ عن الحرب العالمية الثانية.. والثالثة.. والرابعة….. الحرب!!

ما أقسى هذه الحرب….

 

 

الصورة: صفحة الحرية للشاعر وائل سعد الدين

 

 

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.