كنّ مدلّلات، خريجات جامعة، منهنّ سيدات أعمال، ومهنيات، وفنانات… كانت لديهنّ أملاكٌ ومجوهرات… لم يخبرن ضنك الحياة، ولم ينقصهنّ المال يوماً.
كان ينقص الكثيرات منهن خبرةً في مقارعة الفقر، في حيل التوفير، في الاستعداد للكوارث… لم يدر في ذهن إحداهنّ أنها قد تطبّ عليهن فجأة كما تطبّ على الفقراء…
وقامت الثورة وصرن بلا بيوت، وبلا أزواج، أو نجا بعض رجالهنّ بعد أن فقدوا كل ما بنوا؛ واستفاقت عقولهن تدفعها غريزة الحياة
امرأة تشتري قمح الموسم من الفلاح على البيدر، تنقله تنكة تنكة على كتفها إلى البيت، تستعير من جيرانها حلّة السلق الضخمة (الخلقينة)، تُعلّمها جارتها كيف تسلق عشرين مدّاً من القمح، تفرشه تحت الشمس في فسحة بيت الجيران، تأخذه إلى المطحنة تنكة تنكة، وتعيده منها مجروشاً. تفرز البرغل الخشن وبرغل الكبة، وتصنع الكشك من البرغل، وتجعل من قشور القمح حشوة للمخدات، وتضع منتوجاتها الفاخرة في أكياس تدور بها على الدكاكين حتى تبيعها كلها، ولا تنسى أن تحتفظ لأولادها بمؤونة الشتاء…
امرأة تستدين ليراتٍ قليلة، وتتوكل على مدبّر الكون، وتسافر إلى الشام تقصد العطار في الحريقة، ترجوه أن يعلمها صناعة الشامبو والمنظفات لقاء المال الذي تستطيع… يماطل الشاميّ ثم يرقّ قلبه. تعود شاكرةً وتفتح مصنعها البدائيّ الصغير في ملحقٍ من التوتياء بنته خلف غرفتها… تخطئ في الخلطات الأولى كثيرا، وتتعلم من أخطائها… تحرق يديها أكثر من مرّة بالقطرون، تعالج حروقها بالطحين والماء البارد، وتعود إلى أعمالها يساعدها أطفالها المتوردون بعدّ وتصفيف القناني الملوّنة، أو رصد عقرب الساعة ليخبروها متى تطفئ النار تحت الخلطة التي لن تغفر الخطأ في إعدادها من جديد…
امرأة تسري إلى البريّة الكريمة تقطف من الأرض كل نباتٍ صالحٍ للأكل. في خيمتها تغسله بالماء البارد، وتنقيه وتصففه تحت ضوء الشمعة، تداوي خدوش يديها بزيت المكدوس القديم، وتنام حالمة بفرج الصبح لتسري إلى التاجر تقايضه كل ما حوّشت بالقليل الضروري الذي يفتديه ثمنُ حشائشها
امرأة تبيع إسوارتها الوحيدة وتشتري بها ماكينة خفق الحمص وتصنع المدمس وتوزعه في أكياسٍ تعلّمتْ كيف تخرج من يديها أكثر أناقة من تغليف المعامل
مهندسةٌ أو صيدلانيةٌ تعمل أجيرةً في سوبر ماركت أو سكرتيرةً في عيادةٍ أو مكتب بدوامٍ يهدر كل وقتها ومهاراتها، ويكافئها بفتات المال…
امرأة تخبز في بيتها خبز الصاج على وقود من الأغصان اليابسة في الحقول، أو تلفّ ورق العنب في بيتها للمترفين، أو تتقن تكوير الكبة كما كانت تتقن رسم الأشكال على السبورة أمام تلاميذها، أو تفرم البقدونس أو تحفر الكوسا، أو تجفف الأعشاب العطرية، أو تكوي ثياب المقتدرين، وتغريهم بخدماتها الأرخص من أجور المصبغة، أو تنظف البيوت أو تشطف أدراج المكاتب، أو تجالس الأطفال، أو ترعى العجزة، أو تذهب لشراء الأغراض من السوق لمن يحتاج… أو تحوك الكنزات والشالات وجرابات الأطفال والشراشف، أو تعلّم أطفال الجيران دروس القراءة والحساب، وتستعيد معهم ما كادت تنساه من شغفها بالأدب الإنكليزي أو الفرنسي… أو ترسم مخططات الأبنية في البيت بالقلم الرصاص وبالفرجار، بذات الطرق البدائية التي تعلمتها في الجامعة قبل حلول التقانات الحاضرة
هي الحياة، ولا سواها، علت بهن إلى غيماتها، ليرسمنها من الأعالي، بعيونهن هنّ لا بالعيون الحسيرة التي أراد الجلاّد الأعشى أن يطمس بها كلّ ألوان الحياة في سوريا