– الخطّ العربيّ واحدٌ من أبدع الفنون عبر التاريخ، فهو من الخطوط القليلة في التاريخ التي تتحول أشكالها إلى موسيقى بصَريّة.
كان لهذه المهنة في الحواضر الإسلامية “شيوخُ كارٍ”، معلمون كبارٌ حفظوا أسرار الخطّ وقدراته، وتواتَروها عبر أبنائهم وعائلاتهم فقط، لأن هذه المهنة مثل الكثير من المهن، كان صاحبها يورّثها إلى ابنه البيولوجي، ولكنّ أحد عباقرتها كسر هذا الاحتكار.
في تاريخ هذا الفنّ الرائع تتمرأى للمتابع حكايات إنكارٍ لمعلمي الخط الكبار وعباقرته الأوائل، والكثير من المهتمين حتى من أهل الاختصاص بالكاد سمعوا عن ابن مقلة أو ابن البواب أو ياقوت المستعصمي، إلى أن انبرى أخيراً الكاتب الألماني من أصل سوري، رفيق شامي، بتكريم أهل هذا الخط ومعلميه في كتابه الرائع الذي لم يأخذ حقّه حتى اليوم ” قرعة جرس لكائن جميل” الصادر بالعربية عن دار الجمل 2012.
في هذا الكتاب خصّ رفيق شامي العبقريَّ ابنَ مقلة بأسفارٍ مثيرةٍ لحياته ومهنته وعصره، ومن يتبع تاريخ المهن والحِرَف عليه أن يدرك أنها لم تُتوارث عن عبثٍ، بعضها كان يخص عائلاتٍ بعينها والأخرى تخصُّ موهوبين أو حرفيين، ولكلّ مهنة تاريخٌ من النّضال والألم والأبطال والدراما، تضيء الكثير من تاريخ الإنسان نفسه وصراعه مع الحياة.
ابن مقلة شهيدُ الخطِّ العربي، تتلمذ على يد أبيهِ وجدِّه، لكنه قرّر أن يقوم بالمحظور فأسّس مدرسةً للخطِّ أفشى فيها الأسرار لتلامذته، فتعرّض لمحنةٍ مرعبة.
وقد نقل التّوحيدي في كتاباته بعضاً مما قيل عن ابن مقلة : “أُفرِغَ الخطُّ في يده كما أوحي إلى النحل في تسديس بيوته”.
ولد هذا العبقري في عام 272 للهجرة في بغداد، وتتلمذ في العائلة وعمل في النسخ، حتى لقيه الخطاط البارع أبو حسن بن الفرات، الذي عمل كوزير لدى الخليفة، فضمّه إلى بلاط القصر وأسند إليه مهنة تحتاج إلى الخط وتكفَل لصاحبها حسن الموارد، فعمل كمحصّلٍ للضرائب، ومسؤولٍ عن النسّاخين، حيث أن ما كان يُنسخ في بغداد من كتب في ذلك الوقت يعادل ما تطبعه أوروبا مجتمعة.
وقد وصف أبو منصور الثعالبي خطَّ ابن مقلة بأنه “يُضرب به المثل في الحُسن، ما رأى الراؤون، بل ما روى الراوون مثله في ارتفاعه عن الوصف، وجَريه مجرى السّحر”.
يذكر رفيق شامي أنّ ابن مقلة لم يقم بتحسين وتطوير غالبية الخطوط كالثلث والنسخ فحسب، بل أسس قواعد علمية لضبط المقاييس والأبعاد التي ما تزال ساريةً حتى اليوم.
كان ابن مقلة يسعى إلى التّوصل لإصلاح الخطّ بجعله واضحاً ومتناغماً، إضافةً إلى أنّه امتلك الجرأة والعلم لخلقِ أبجديةٍ جديدةٍ قادرةٍ على أن تجْمعَ أصواتَ لغاتِ الأرض اعتماداً على الخطّ العربي، كما كتب العديد من الدراسات، وحاضر واشتغل على نظريات مختلفةٍ عن عُمق الخط، ولكن للأسف تمّ استغلالها في صراع سياسي وديني في ذلك العصر، فبعدَ أن أُعجب به الخليفة الراضي أثار ذلك عليه سخط العديد من أهل النفوذ، وبالمكيدة والتّحريض الخفيّ تم زجّه في السجن بتهم “التجديف والكفر”، وصُودرتْ ممتلكاته وأُحرقت مخطوطاته وعُذّب ونُكّل به، حتّى أنّهم قطعوا يده اليمنى كي لا يعود لرسم الخط أبداً، لكنَّ الخليفة ندم على ذلك فيما بعد، وأمر طبيبه بمعالجته، فعاد ابن مقلة إلى حبره وريشه.
ينقل رفيق شامي، استناداً إلى بعض المصادر، عن ابن مقلة ألمه حتى بعد أن ردّ له الخليفة اعتباره:
“يدي خدمتُ بها ثلاثة خلفاء وكتبت بها القرآن الكريم دفعتين تُقطع كما تقطع أيدي اللصوص”.
إلا أنّهُ رغم ذلكَ، وبدلاً من الاستسلام لليأس، اخترع رابطاً ثبّت به الريشة على معصمه وبدأ يخطُّ من جديد، محاولاً مراسلة تلاميذه عبر الحمام الزاجل ونشر أفكاره ومشاريعه بكل ما لديه من عزم وإصرار، مؤسساً أوّل مدرسة لهذا الفن، ليهبَ من خلالها علمه للجميع كاسراً احتكار “شيوخ الكار” لتلك المهنة.
كان يملي على تلامذته ما يعرفه، يصوّب لهم، يعطي بدون حسابٍ كل ما اختزنه في داخله من معرفة، وهنا تتدخل السلطة والحساد من جديد، ليسجن ويتمّ هذه المرّة قطع لسانه كيلا ينقل معرفته إلى أحد، ثمّ ينفى ليموت وحيداً في واحة مجدبة.
إعادة سيرة هذا العبقري ومحنته ألهمتْ تلامذته الممتدين عبر الزمن، أخلاقه في كسر احتكار المهنة وبثّ أسرارها لخير الناس جعلته شهيد هذا الفن الحيّ.
تكريم هذه المهنة وشيخها قام به رفيق شامي بكتابه الساحر “قرعة جرس لكائنٍ جميل”، ولفهم كيف تورَّث المهن وأسرارها، كتب رفيق شامي أيضاً رواية معاصرة بالألمانية تُرجمت لأكثر من عشر لغاتٍ حية بعنوان “سر الخطاطِ الدفين”، ومن المفارقات المحزنة أن هذه الرواية لم تجد بعد من يترجمها إلى لغتها الأم.
لاشكّ أن لكلّ مهنة أسرارها وطقوسها وورثتها ولكنّ أخطرها على ما يبدو هو سرُّ الخط وما يختزن في جسد اللغة من روح الكلام.
“قرعة جرس لكائن جميل” هو الكتاب الوحيد من بين كتب رفيق شامي، التي فاقت الخمسين، الذي كتبه بالعربية، فيه سنرى رفيق شامي الحقيقي ولغته المشبعة بالجمال والثقافة العالية والوجد الصافي.
معظم ترجمات رفيق وإن كان أشرف عليها بنفسه وآخرها روايته العظيمة التي باعت أكثر مليون نسخة في العالم “الوجه المظلم للحب”، لم تستطيع الترجمة على قوتها ( خالد الجبيلي) أن توصل إبداع رفيق شامي كما رأه العالم.
سأظل أحلم شخصياً أن يقوم رفيق بكتابة روايته القادمة باللغة العربية أو يعيد ترجمة روايته بنفسه، فرواياته المترجمة ظلمته حقا لدى القراء العرب، لذلك لابد من قراءة “قرعة جرس لكائن جميل” ففيه الوجه المشرق للغة رفيق، الذي عمل بمنتهى المتعة والجمال والذكاء من أجل ذلك الكائن الجميل الذي يدعى ( اللغة العربية ) مقطّراً بيد واحد من أشهر كتّاب ألمانية وأوربا اليوم.
ذلك السوري النبيل الذي أعيد وأكرر إنه كتيبة كاملة من الكتاب ليس بإبداعه فحسب بل بمواقفه الحازمة من المرتزقة، والاستبداد، والثقافة المزورة، ودعم اللاجئيين ودفاعه عنهم بشراسة مقاتل حقيقي يدعى رفيق شامي الذي تحتفل الثقافة الألمانية اليوم، بعيد ميلاده السبعين. كل عام وأنت بخير دكتور سهيل فاضل ( اسمه الحقيقي) كل عام وأنت رفيقنا أيها الشامي الأبدي.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.