في حي المزّة بدمشق، استطعت الوصول إلى بيت شاب تم إنقاذه بأعجوبة من مظاهرة المزة العظيمة في يوم السبت 18/2، فقد كان ثمة رصاصة متفجّرة قد هشّمت معظم أحشائه! في ذلك البيت لمست هلعاً ضارياً تصرخ به وجوه أهلهحينما أعربت عن رغبتي في توثيق القصة. وربما هذا ما جعلهم ينفون أن يكون ابنهم قد اشترك في المظاهرة أصلاً، بل “كان يمرّ من المكان مروراً”، كما حرصوا على ألا يذكروا كلمة عن (الوضع)! على الرغم من أني أكدت لهم، مراراً، سريّة كل ما سأوثّقه. أمه الحجة فحسب كانت تدمدم طيلة الوقت:
– “الله يخلّصنا ع خير.. الله يخلّصنا ع خير”.. في ذلك اليوم كنت قاب قوسين أو أدنى من الطرد. وعند الباب قالت لي أخته، وهي تبدو في عمر قريب من عمري: “يا أختي نحن بشر يا رب السترة.. أرجوك انسي أنك دخلت بيتنا”..
بصراحة لم أشعر، ولا للحظة، بعتب أو لوم تجاههم. وضعت نفسي مكان أمه الحجة، ربما كنت سأتصرف بالطريقة ذاتها. ولم أتذكر، وأنا أنهب السلّم نازلة، إلا حياتي الماضية وحصار الخوف الذي طالما أحاط بنا منذ أزمان.. طفولتي هي وحدها التي مرّت أمام عيني متهادية شامتة. في الحقيقة لم أكن لأنظر إلى طفولتي بعين ناقدة لو لم اكتشف طفولة مغايرة تكبر أمام عيني، وتعد، في حالات المقارنة المباشرة، بأن تضع جيلي بكامله في إطار ضيق اسمه: حصار الخوف، استمر منذ أربعة عقود وحتى اللحظة. فقد اضطررت قبل مدة، ولسبب خاص، أن أعود مع ابني في باص المدرسة إلى البيت، حينها للصدفة ضرب السائق أحد التلاميذ بعصا مخبّأة تحت مقعده، فلم يكن من بقية الطلاب، الذين يمتلئ الباص بهم وأكبرهم لا يتجاوز عامه الثاني عشر، إلا أن راحوا يهتفون بصوت واحد: “الشعب يريد إسقاط الشوفير”، الأمر الذي جعل السائق يسقط في صمته، ويتظاهر بأنه لا يسمع شيئاً ثم يتابع القيادة. وأظن أن أي شخص ينتمي إلى جيلي، سيتبادر إلى ذهنه، في تلك اللحظة، مقارنة مشابهة، ففي الوقت الذي يكبر أطفالنا فيه على قيمة أساسية ضد الخوف كنت لا أجرؤ، حين كنت في مثل عمرهم، على ذكر شيء يخصّ السلطة وملحقاتها!!
هذه قيمة لا يمكن أن تكون طارئة على الإنسان، ولكنها بنية تنشأ مع نشوئه كالأخلاق، وتتراكم مثلها. ولاأعتقد أن ما جعل الشعب السوري اليوم ينتفض على الخوف مطالباً بالحرية إلا محاولات للقفز على تلك البنية التي استشرت في خلاياه، وتبدّت في كل سلوكياته وأخلاقياته العامة والخاصة. وليس ما يحصل في دواخلنا وحولنا إلا قلق عميق اسمه الحرية بدأ يُنتشُ في مجتمعنا.
ثمة شيء يتغير بصورة واضحة في بنى أطفالنا، ليس السبب أن مراييل المدرسة تغيرت ألوانها، وليس لأن المناهج راحت تتبدل نحو اتجاهات أكثر حداثة (بقليل) وخروجاً من الأطر العقائدية والعلمية المغلقة، وليس لأن دروس الطلائع المجيّشة ودروس الفتوة المهينة تبددت من وجدان الأطفال، بل لأمر أكثر خطورة وتأثيراً بكثير، أمر يخصّ ارتكاساتهم العفوية وطرائق قولهم: لا، والاعتداد بالنفس، والأهم: الشجاعة في قول ما يعتقدونه صحيحاً بدون خوف..
ربما لأن الحرية تبدأ بالخروج من المكان الساكن الذي تمنحنا إياه السلطات، سواء أكانت دينية أو اجتماعية أو سياسية. وحينما نتمرّد على قوانين تلك السلطات، التي وضعت لضمان سلطتها، إلى مكان آخر غير ثابت، نتحوّل من حياة الخنوع والتسليم إلى قلق السؤال وقلق الوعي.
وهنا سيسقط الشرط الأساسي للتربية القديمة وهو الخوف من السلطة، أية سلطة. الأمر الذي يجعل طفلة في السادسة من عمرها، وهي ابنة صديقة لي، تسأل أمها إن كان من الممكن أن يقول أحد ما إنه لا يحب رئيس الدولة. وحين تلعثمت الأم أجابتها الصغيرة بمنتهى البساطة: يعتقلوننا.. أليس كذلك؟!. حينما كنت في مثل عمرها لم أكن أجرؤ على لفظ اسم الرئيس! أعتقد أن الكثير من الأمهات والآباء يتعرضون اليوم للعديد من المواقف الشبيهة ولزخّ الأسئلة المحرجة من صغارهم. كأن يكتبوا لافتات في البيوت مكتوب عليها: “الشعب يريد إسقاط الكبار”، أو كسؤال أضحى أسهل من أكل البسكويت: “أنت معارضة ولّا موالاة؟”، أو كما سألني ابني يوماً بلهفة، وفي اللحظة التي دخل فيها إلى البيت قادماً من المدرسة: “ماما هل درعا في سوريا؟” فأجبته. ثم عاد وقال: “هذا يعني أن الرئيس ليس سورياً..”. وبدا مستغرباً جداً حين أجبته بالنقيض. لكن وبعد عدة ساعات عاد وقال بهدوء: “كيف يكون سورياً ويسمح بقتل الأطفال هناك؟”.
وسط كل النقاشات المحتدمة والتكهنات والتّصورات والتحليلات التي تعمّ مجالسنا وبيوتنا واجتماعاتنا اليوم لا يبدو أن هناك شيئاً واضحاً ومؤكداً عن مستقبل سوريا، ولا تبدو ثمة سيناريوهات واضحة عما يمكن أن يجري لاحقاً، ولكني أعتقد أن ثمة أمرين مؤكدين، أولهما أن سوريا لن تعود كما كانت، وثانيهما أن تلك البنية الثقافية القديمة القائمة على الخوف، والتي ترعرعت أجيالنا في كنفها، أضحت أشبه ببناء عفن متهدّم لن تقوم له قائمة. فعلى الرغم من كل أثمانها، الحرية تجعلنا أقرب إلى البشر منّا إلى الجمادات، وهذا بالضبط ما يجعلنا المسؤولين الوحيدين عن مصيرنا!)
رائعة كالعادة ياروزا ..