لا أعلم إن كان كل الذين يموتون في مرحلة متقاربة من العمر يشبهون بعضهم..
أرى بعض الذين يموتون في سن مبكرة , تجمعهم تصرفات متشابهة في حياتهم , و انفعالات تكاد تكون هي ذاتها…تراهم دومًا يبتسمون في الخارج و في الداخل يلجؤون إلى العزلة و الرؤى الغامضة التي نعجز عن تفسيرها نحن الذين نتنفس هذه الكلمات..إلى الآن
تراهم دومًا يترددون النظر في وجه هذا العالم في كل استيقاظ لهم , يعلمون أن هذا العالم سيدمر نفسه بنفسه لاحقًا..يبصرون وجهه القبيح..قبل أن يضع البودرة و المكياج و يستمر في خداعنا
تراهم دومًا في عجلة…و كأن الحياة تنفذ من بين أحلامهم الطرية..
الطفل الذي يقفز على ظهر الشمس في لحظة الغروب…هو باسل
الطفل الذي يجر الشمس من شعرها قبل لحظة الشروق…هو باسل
الطفل الذي يفكر في اختراع كميرا أو موتوسيكل يجوب أصقاع الأرض بلا توقف , بحثًا عن الأمل
الطفل الذي يمشي عاريًا في “أرض الديار” باحثًا عن معنى سؤال الحرية الشهير…هو باسل
الطفل الذي ولد في المغارة , فتبنته السماء و رعته الآلهة و احتضنته سوريا…باسل
الطفل الذي غمسته أمه في نهر الخلود هو باسل
الطفل الذي دفعت به أمه إلى النهر . خوفًا من الفرعون
الطفل الذي رفع لافتة كتب عليها حرية , ارحل , ما منطيقك
الطفل الذي يستمر في طرح الأسئلة اللماحة هو باسل
الطفل الذي يحلم بصعود حبة الفاصولياء أو التحول إلى طير حر…باسل
الطفل الذي تحكمه السليقية , الذي لايأبه لخطورة المغامرة , هو باسل
الطفل الذي تعلم المشي باكرًا و النطق باكرًا , و انتابه الفضول للسفر حول العالم…هو باسل
…
رحل باسل بعد أن دار نصف هذا الكوكب…بدراجته السحرية و كميرته التي تشفي الجراح
و ابتسامته التي تسخر من قباحة هذا العالم
رحل ليكمل رحلته في عالم آخر , عالم يستطيع فهمه
فقد اكتشف أن فوق هذا الكوكب الصغير….لامكان لأصحاب الأجنحة المضيئة
و العيون البراقة التي تقرأ البواطن و تفسر السكون
.
.
لا أصدق أنه يموت
و ما شكل ذلك الموت القادر على اقناع باسل بالرحيل قبل رؤية النصر ؟
و كيف تمكن الموت من خداع باسل الذكي ؟ و خطفه على عجل دون أن يكمل فيلمه الوثائقي عن 40 سنة من مرحلة العبودية
هل أصبح الموت أكثر تطورًا فجأة ؟ هل بات يفهم بالسينما و الفن و اللوحات و الشعر و الآثار و المؤثرات البصرية و تفاصيل النفس البشرية
هكذا…
من علم الموت خطف الأطفال السوريين ؟ و لماذا يستهوي أطفالنا و شبابنا دونًا عن العالمين
هل جرب الموت التحدث إلى أحد الصغار السوريين فطاب له استحضارهم جميعًا ؟
هل هو ثقيل الظل إلى هذا الحد , ليجلب إليه الأطفال و ضحكاتهم و عفويتهم ؟
ربما لاعلاقة للموت بما يحدث…باسل يريد أن يوثق موت أطفال الحولة…يريد أن يرافقهم إلى حيث صعدوا هناك…باسل ذهب ليبعث لنا الحقيقة…من هناك
في داخله سوريا..لاتموت
في داخله سوريا مختلفة بعض الشيء عن كل أنواع سورية التي عرفناها
سوريته لقطة واسعة تتسع للجميع , للعشب للأشجار للأطفال للكبار للمساكين للأغنياء للمخرجين للفقراء للــ لقطاء للمشردين لرواد مطعم حارتنا للمصلين “في الجوامع و الكنائس” لخريجي الجامعات لخريجي البارات للمتزمتين للمثقفين للثائرين للمتفرجين…حتى للص الذي يسرق ليأكل..
سوريته كانت نقية , كاملة , فاضلة , على كتفها تستقر السماء , من أجلها ترجع السنونوات كل دفء , تغني فيروز لها كل صباح , و يلفها بردى و ينام ,
سوريته لاتعرف العبودية..لايدركها الذل…لا يهجرها التسامح
كانت تعطي النبل و الإنسانية للعالم , لايعقل مثلًا في سوريته أن ترى قطة صغيرة تعذب أو تذبح , فكيف بطفل …هذا هو المستحيل…المكان الذي أنجب باسل…لا تذبح فيه الأطفال
.
.
أظنهم يتشابهون في كثير من الانفعالات…
اولئك الذين يحبون دراسة السينما..
غالبًا ما تعمر في ذاكرتهم المشاهد…و تهرم من كثرة ما تعيد نفسها على جدار الجمجمة
و في غالبيتيها مشاهد مؤلمة , قاسية , عميقة الأثر , مديدة المفعول
عن الفرح و أثره في القلوب التي تخفي الحزن
عن الأمل….في القلوب المكبلة بالحديد و الرصاص
عن الحب…في القلوب التي احترقت و تفحمت
لايمكنم تحمل تلك المشاهد و الصور الجاهزة دومًا للخروج على العلن
الكميرا هي قلم السينمائي…
هو لا يأبه لنوعها أو مدى تطورها
بإمكانه الكتابة بقلم ستيلو 35 ملم أو قلم رصاص بشريحة ذاكرة رخيصة
باسل الذي يحب صناعة الأفلام….ستجد في رأسه ملايين الأفكار و الصور…عن عالم آخر حولكم…لاتعرفونه
لكنكم أنتم أبطاله بلاشك…باسل يصنع من المستضعفين أبطالًا مشهورين
و من حياتهم المقيتة على البسطات تحت الجسور و الأنفاق و الأضواء…فيلمًا عالميًا يستحق الجوائز
.
.
و في ذات صباح استيقظ ليجد نفسه لايحب العطل و لا الديكتاتور…
كان كابوسًا…
النوم في العطلة…تحت قبضة حاكم جائر
.
.
اولئك المساكين في القرى النائية , كانوا أيضا أبطاله و جمهوره
و عندما استلموا دور البطولة في سوريا
اتخذ القرار…أن الثورة….هي أهم فيلم له على الإطلاق
رجع من بلاد العم سام…من حيث يقف تمثال الحرية….ليعطي العالم كله درسًا في الحرية
.
.
كان يجيد تلك اللغة التي تعجز عنها معظم العرب , و يمقتها الكثيرون في بلادي
لغة الإنسان البدائي , لغة الفقراء , النازحين , لغة الهم و الخيم و البرد و المستحاثات و العقارب و الصراصير
لغة اللصوص حتى…كان يستمر في سؤالهم
هل سرقت لتأكل ؟
كانت تلك اللغة الكونية التي توشك على الانقراض…بالنسبة له أهم من لغة الخوارزميات و المصفوفات
التي تحتل عالمنا
باسل كان يجيد أيضا لغة الموسيقى…كان يجيد امتطاء النغم و قيادته
نحو الضمائر المتحجرة
.
.
في تلك الصورة يمد يده باسل….نحو الحرية
فيتصيده الموت..
على الأقل هو لامس ذلك العالم المضيء قبل رحيله…و تركنا في مستنقع الغل و الوحوش و الضمائر العفنة
على الأقل هو تجاوز خوفه نحو الشمس…و نحن لازلنا نختبئ وراء شاشاتنا
خوفًا من التحليق المبكر دون أجنحة
رحل من حمص..
هناك حيث أحرق العسكر محاصيل الذرة , هناك حيث اغتصبت النساء في معمل السكر , هناك حيث انقرض بابا عمرو إلا من ذاكرتنا , هناك حيث أمطرت السماء ألف صمت و كلمة , هناك حيث شاهد إلهًا يقف على الحياد , سارع باسل للتدخل…نيابة عن الإنسان الذي فينا
كتب باسل في خانة التعريف عن نفسه نقلاً عن ليون بلوم
the free man is he who does not fear to go to the end of his thought