إلى لارا صبرا
I
المنخفض الجوي الذي عَصفَ بكافةِ أنحاء الإقليم انتهى. للإقليم أربع أطراف، على حوافها مخيماتٌ للجوء، تلك المخيمات يقطنها السوريون. الصورُ المُسربة من محيطها تنقل للعين تفاصيل الموت. خيمٌ اقتلعتها العاصفة، أَسرَّةٌ أغرقتها الأمطار، أطفالٌ ينامون بالعراء، حالاتُ وفاةٍ لم يتم التحدث عنها بعد، أطفال ينفخون أيديهم للتدفئة، إنه الجحيم والكتب المقدسة التي لم تجد وقودها بعد، الأطفال الذين لم يحصدوا الدفء يوم جاء الخير الإلهي، لن يحصدوه في الأرض الموعودة.
الأخبار المُسربة من المخيمات لو لم يكن المنخفض لما عَرِفَها أحد. وحدها القلة القليلة من تتَبع أخبار المخيمات القابعة على طرفِ الموت الثاني تَعرِفُ ذلك. الإعلام “الوطني” لا يهتم إلا بقصص الاغتصاب، وحالات الزواج القسري، يهتم أيضاً بمجسمات الدوحة، والمؤامرة التي قاربت على الانتهاء. أطفال مخيمات النزوح من الموت الجماعي إلى الموت الفردي يموتون. والإعلام الممانع مازال يتحدث عن بناء المستوطنات في الضفة الغربية. الخيام تغرق بالأمطار، ونشرة الثامنة والنصف تروي تفاصيل الوساطة الروسية في حل ما يُسمى «الأزمة». والكل يعرف أن الأزمة الحقيقية هي أزمة الضمير الإنساني. والخير الإلهي الذي فاض علينا زادَ من عدد شهدائنا.
«هنا في هذه المدينة الوحدة تكسو البياض، الثلج الذي هطل لم يكن له شكلٌ، ولا صورة. كانَ يوماً عصيباً، على غير العادة افتقد الناس لصوتِ الطيران، وافتقدتُكِ. لم يغلب رجل الثلج إلا الغياب، غياب الجميع عنا، فراغ المقهى من حضورهم. غيابكم كلكم. وغيابكِ الوجع الأكبر، هكذا أكتبكِ كنصٍ لفيلمٍ فرنسي لا بداية له ولا نهاية».
II
الصورة في معناها الأول ترسم الألم. الوجع الذي يأتيكَ من صور الأطفال الذين يبحثونَ عن عالمٍ آخر. صورة الكون المشوهة في نظرة طفلٍ للسماء. صورة خرقاء غير معترفة بتقاليد الإنسانية. ملتقط الصورة؛ الفوتوغرافي الُمحترف يتفاخرُ باللقطة الموسم. لو كان «رولان بارت» حياً لأعاد كتابة دراسته «الغرفة المضيئة» وسرق أمثلته من النموذج السوري ـ الصورة المنتقلة من مخيمات الموت إلى الداخل الذي يشبه ذكريات طفلٍ في أول العمر يهرب من المنزل ليلعب مع «بنت الجيران» ـ تعريفٌ موجزٌ عن حالة لا استثنائية. إنها حالة شعبٍ تكتبها همسات الأطفال. هي حالةٌ عفوية أو مثلما ذكرها «بارت» في كتابه السابق حين كتبَ غيرَ مستلهمٍ من الواقع السوري: «هي مثل مسرح بدائي، مثل لوحة حيّة، مثل مجازية الوجه الساكن المخصّب الذي نرى الموتى تحته». من أراد أن يتعرف على واقعنا لينظر صور أطفالنا. إنها مأساتنا.
«لصورتكِ شيءٌ من البراءة، الفرح، الأمل، والحرية. خجلٌ لأني لم احتفظُ بصورةٍ معكِ. نسيتُ أو تجاهلتُ اللقطة. كنتُ خائفاً إن اعتقلتُ يوماً أن يسألني المحقق عن صورتكِ. أن يُغازل عيناكِ، أو خيوطُ شعركِ المتناثرة على أطراف الصورة. وكلما نظرةُ إلى جدران الغرفة أقول: لو احتفظتُ بصورةٍ لكِ في أحدِ الزوايا.. ربما كانت ستحرسني من حفلات المداهمة وأصوات القصفِ المجهول الهوية لبعدِ حين».
III
تحاليلٌ كثيرة، كلامٌ غزيرٌ عن المشهد الذي يُحيطنا. تقسيمٌ، هجرةٌ اضطرارية، حربٌ بسوس، انتقاماتٌ طائفية. إسرافٌ شديد في قراءة المستقبل. قراءات مستعجلة عن حروبٍ لن تقع، أعود إلى تاريخ الخمسينيات من القرن المنصرم، واعترف أن التاريخ لا يكذب، أفكر قليلاً في زاوية الغرفة التي فرض عليها تقنين الكهرباء، وأصل إلى أن الماضي أصدق من الحاضر. أُطيل التفكير فأُيقن أن الحرب البسوس لن تقع طالما حب الهال يختلط مع رائحة الصباح.
« والعرافة التي قرأت لي فنجان المساء قالت: فتاة ما تنتظركَ عند أول بداية لن يكون لها نهاية. وقالت أيضاً: إنكِ جميلةٌ كالحد الفاصل لدرجة غليان المياه. العرافة التي لم تطلب مقابلاً لما قرأته لي من حظ مستقبلي. أعادت إليَّ قول صديقة في يومٍ سابق: ولكَ منها حياة.. ولك منها ما تشتهي ولم تشتهي.. أصبر فإن في الصبر موتٌ.. وحياة».
wissam-al-hamwi
بتجنن وائل .. اشتقتكَ صديق .. شوقٌ غابَ عنهُ اللقاء .. فلا دمشقُ ولا عمّان ولا حتى القاهرة كانت مسرح لقائنا