لماذا حصد “لا لا لاند” سبع جوائز غولدن غلوب وخمس جوائز بافتا؟ هكذا تساءل كثر ممن حضروا الفيلم، بينما اتفقنا أنا وخمس صديقات إعلاميات بعد خروجنا من صالة العرض أنه يستحق.
ما أن يبدأ استعراضه الأول في ازدحام شارع، وينزل الناس من سياراتهم التي عرقلها السير بملابس ملونة يقفزون ويرقصون برشاقة ويغنّون عن الحب، حتى تندهش، فهذا لا يحدث ولن يحدث أبدًا في يوميّاتنا، لكنه يبعث على الفرح ويقول لك أهلًا بك إلى عالم المتخيَّل، على الرغم من أنّ الفيلم يحكي قصّة عصريّة عن صعوبات الحياة التي تعترض شابًا وفتاة في مقتبل العمر.
عازف البيانو سيباستيان يحلم بافتتاح مقهى لموسيقى الجاز، وميا الممثلة الطموحة التي لا تكلّ من التقدّم لتجارب الأداء باحثة مثلها مثل آلاف الموهوبين الذين يفدون يوميًا إلى لوس أنجلوس عن فرصة دور على الشّاشات.
قد يبدو أحد المشاهد مسروقًا من فيلم أبي فوق الشّجرة، ذلك الذي يطير فيه سباستيان وميا بين النّجوم والأضواء في فضاء المسرح، لقد أعاد لي هذا المشهد عبد الحليم حافظ وميرفت أمين بأغنية يا خليّ القلب، إنه الحبّ في أوّله حين ينعدم الوزن ويرفعك عن الأرض لتطال سعادة سماويّة، ويبدو أن دقّة الشّعور وطريقة وصفه لا يبلوها الزّمن!.
أعتقد أن السبب وراء إعجاب النّقاد والمحكمين بالفيلم هو تلك البساطة المدهشة في القصة والحبكة والتصوير والأزياء والماكياج والاستعراضات والإخراج. فمنذ فيلم ”Grease ” الذي أُنتِج في نهاية السبعينيات من بطولة جون ترافولتا وأوليفيا نيوتن جون، وفيلم ”Dirty Dancing“ بطولة باتريك سويزي وجينيفر غراي في أواخر الثمانينيات، سيطر الآكشن والرعب والعنف والخيال العلميّ على السينما، بكل فنيّات وتقنيّات الكومبيوتر، حتى أفلام الرّقص والاستعراض صارت تبتعد عن ”برودواي“ وتميل لأنواع رقص أخرى خرجت من رحم الشّارع مثل الهيب هوب بكل مافيها من قوّة وقسوة.
المُشاهِد الذي حشت السينما رأسه بالمبالغات وأعطته جرعات فائضة وضخمة من الغرائب والأشباح والماورائيات والمخلوقات الفضائية والأبطال الخارقين والجنس وتعقيدات النفس البشرية والحروب والصراعات، يحتاج أن يعود خطوتين إلى الوراء من حين لآخر، ليهدأ في عتمة الصالة ويتابع فتاة بملامح بريئة، مسبلة اليدين بكنزة صوفية عادية، تغني دامعة عن أحلامها وحياتها أمام لجنة تحكيم.
الجاز سيد الموسيقى في الفيلم، موسيقى التحرر والكفاح، صحيح أن البيانو أدخل إليها متأخرًا في عام 1920 لكنه هنا أحد أبطال العمل، كآلة وصوت وإحساس. لم يكن عبثًا اختيار الجاز الذي يضعف ويتراجع في عالم الموسيقى، وقد تكون صناعة فيلم لإحيائه نوعًا من الثورة الموسيقية يحتاجها العالم اليوم بمخاضاته العصرية الجديدة وصرخات الحرية والرفض الشجاعة التي تصدح في كل مكان من حين لآخر، وصدى الصّمت والعبودية الذي تتسع مساحاته أيضًا في الكثير من بلدان العالم.
الموسيقيّ والممثلة يواجهان صعوبات كثيرة ويضطران لتقديم التنازلات من أجل التقدم. هو يشق طريقه بصعوبة من خلال عزف منوعات الأغاني خلال الحفلات في الحانات الحقيرة ويقبل عرضًا للعمل في فرقة موسيقية تمزج الجاز بالبوب والآلات الحديثة، عكس أفكاره التي تمسك بها حول إنقاذ الجاز الأصلي من التنويعات الدخيلة، وهي تعمل كنادلة في أحد المقاهي تصارع من أجل أن تؤلف وتؤدي المونودراما الخاصة بها بتشجيع من حبيبها، وعلى الرغم من خيبة فشل عرضها وعدم حضور الجمهور وعدم حضور حبيبها لعرضها الأول، ترفض أن يتخلى هو عن حلمه، وتصمم له شعارًا لمقهى الجاز الذي يحلم أن يفتتحه في يوم من الأيام.
متلازمة دراما الحب والرقص تصنع فيلما ناجحًا، الحياة رقصة مشتركة، المهمُ إن تعثّرت الخطوات في مُزامنة إيقاعِها أن يتابع كلّ إنسان التقدّم إلى الأمام، هذا ما ترجمته ”إيما ستون“ في لحظة استلامها للجائزة قائلة: “الأمل والإبداع شيئان من أكثر الأشياء أهميّة في العالم، وأقول لأيّ مبدع أُقفِل الباب بوجهه أو أيّ شخصٍ في أيّ مكانٍ يشعرُ بالاستسلام أحيانًا، لكنّهم يجدون القدرة في أنفسهم للنهوض والسير قِدمًا، أشارُك هذا الفوز معكم”.
يبدو أن لجان التّحكيم للغولدن غلوب ”رابطة هوليوود للصحافة الأجنبية“ وجدت في هذا الفيلم رسالة حياة وفن فتوّج بجائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج لدَميان تشازل وأفضل ممثلة وأفضل ممثل، فضلًا عن أفضل موسيقى أصلية وأفضل تصوير.
وحقق الفيلم انجازًا قياسيًا في تاريخ الجّائزة، إذ لم يسبق، كما ذكرت الأخبار، أن فاز فيلم بهذا القدر من الجوائز فيها، وكان أكبر إنجاز سابق من نصيب فيلم المخرج ميلوش فورمان “أحدهم طار فوق عش الوقواق” عام 1975 وفيلم المخرج آلان باركر “قطار منتصف الليل” عام 1978، إذ حصل كل واحد منهما على ست جوائز.
قيمة الفيلم برأيي الخاص هي في الخاتمة المزدوجة، سيكون صعبًا عليّ أن لا أحرقها على المشاهد وفي نفس الوقت ألا أشير إليها، الحبّ يحفّز على النّجاح، لكنك لن تستطيع أن تحصل على كل شي كاملًا في الحياة، تعال ننزل إلى الواقع ونتنازل أكثر، نجاحاتهما تصبح في مواجهة القرارات التي تُفكِّك النّسيج الهشّ لعلاقة حبّهما، والأحلام التي سعيا لتحقيقها بجدية حفاظًا على بعضهما البعض أصبحت خيارًا يهدّد بقاءهما معًا. هو الحبّ أحيانًا يكون الأُضحية على المذبح من أجل أن تتحقّق باقي الأحلام كاملة وغير منقوصة، ولكن، مع أشخاص آخرين!.
وماذا لو بقينا معًا؟، هذا ما يلخّصه الفيلم بعذوبةٍ فائقة بخاتمةٍ إضافيّة تنسابُ لقطاتها مثل رقصةٍ أخيرة مع الموسيقى، لنكون أمام الحقيقة في مواجهة الاحتمال الآخر.
نظرة واحدة منه تمهّد لها متابعة الطّريق الجّديد، وكأنّه يعطيها إيعازًا ومباركة لتمضي، فلقد أعطانا الحبّ أجمل ما يمكن أن يعطيه.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.