الصفحة الرئيسية / تجريب / تثلج من جديد

تثلج من جديد

فيليب جوستون، 1978. المصدر: Artsy
لم يكن هناك إلا القليل من الخضرة في الشوارع التي لا تنام، انتصبت الأشجار التي بدت كأنها قُصّت ونُسخت من مخططات مهندس أراد تلطيف الطابع التجاري للمدينة على أطراف المبنى، متفرقة وشاحبة قليلا كأنها ﻻ تعرف ما العمل. والتمعت النوافذ الكثيرة عاكسة الضوء الزهري للسماء المتجهمة التي امتصت أنوار المدينة كإسفنجة قطنية، فاشرقت بما ﻻ يناسب الساعة المتأخرة من الليل، بنور خالٍ من الحياة كأن الآلاف من أضواء النيون تسلط أشعتها على الأرض عبر طبقة الغيوم الكثيفة.
وقفت في المربع الصغير المخصص للمدخنين، وقد كست طبقة من الصقيع الأرض المفروشة بالحصى، التي لونتها الطحالب بخضرة داكنة على الأطراف، فاتحة في المنتصف. بدا ألق تلك الخضرة النباتية المتشبثة بالأحجار المتجمدة الملتمعة، ﻻ ينتمي إلى هذا العالم. انتصبت أربعة أعمدة ذات ارتفاعات مختلفة على زوايا المربع الصغير، داكنة، تبعث شعورًا بإستقامة ساذجة لجندي شاب استلم للتو بدلة عسكرية جديدة. وقد تركت على الرغم من تفاوت ارتفاعها، انطباعًا بأنها وحدها المسؤولة عن تثبيت السماء في مكانها. بدت المساحة الخلفية المخصصة للاستراحة رحبة على نحو غريب. على الرغم من تجهم السماء، حمل الهواء البارد عذوبة قصيّة، فأوشك المكان على التداعي من الرقة. ساد الهدوء كل شيء وأخذت الأشياء تطفو على مهل مبتعدة عن سطح الأرض بوهن، بدا الأمر كما لو كان هلوسة، بدأت فيها العناصر التي تجعل العالم أرضي كفاية (لتستطيع الحواس استقباله بدون أن تتفكك) بالتقلقل.
ندف ثلج منفوشة تراقصت بخفة في الهواء. واصلت طريقها نزولًا ، استقرت على حقل الحصى، ثم التمعت للحظة كنجمة توشك على الإنطفاء واختفت، مفسحة المجال لندف أخرى. كانت الندف تختفي بوداعة وتسلم نفسها للعدم غير مدركة لطابع الدمار الذي امتد في مربع المدخنين الصغير كأنه نهاية العالم.
كانت الأبدية تعيد استيلاد ذاتها بهدوء متخلية بخفة عن عوالم ومفسحة المجال لعوالم أخرى. كأن العالم جدول ماء يترقرق والبؤس البشري كله عبارة عن مطب صغير فقط سببته أحد الصخور فقطب الجدول لثانية.
 .
.
نصف
لدي مشكلة لغوية عويصة. كسرت للتو الى نصفين وأدعو ذلك سحرًا… لا أدري متى بدأت هذه المشكلة، أمي تقول بأني ولدت هكذا. انفصل النصفان بطريقة غريبة كأن شبحًا كان يسكنني قرر اقتلاع نفسه من روحي بالقوة والاستقلال بذاته، كما يحدث في أفلام الخيال العلمي. رتب نصفي حقيبته وتأكد من أخذ حصته كاملة من كل شيء. عين، أذن، كتف، قدم وفردة حذاء واحدة… كسر الخسارة الى قطعتين كأنه يكسر رغيف خبز ووضعها في نصف حقيبة اليد الذي حمله. تمت العملية بهدوء، كل شيء بالتساوي. أومأ لي، تمام؟.
استغربت: ألن تأخذ نصف قلب ايضًا؟ لكنه غمم بكلام غير واضح، ظننتني سمعته يقول: لا أريد قلبًا. لم يكن ذلك عادلًا.
عندما غادر، كان يرتجف كعصفور تأخر عن موسم هجرته، هو أقل قليلًا مما يجب وأنا أكثر قليلًا مما يجب. في تلك الليلة، كتب نصفي الباقي قصيدة سيئة عن الفقد وحلم بأنه كامل يركض في حقل القمح.

عن جفرا سيف الدين

جفرا سيف الدين
كاتبة من سوريا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.