“قبل أن أتزوج كان لدي ست نظريات في تربية الأطفال، أما الآن فعندي ستة أطفال وليس عندي نظريات لهم”.
جان جاك روسو.
في اليوم التالي حرصت أن أتواجد في الساعة العاشرة إلا ربعاً، لأذاكر ما تعلمناه عليه في اليوم الأول والاستعداد لمحاضرتين جديدتين، فالدكتورة مايا سنكون معنا اليوم فقط ثم تغادر إلى ألمانيا. فهي لبت الدعوة رغم انشغالاتها الكثيرة فقط لأن المعنين الأوائل هم الأطفال السوريين خاصة والأطفال العرب المتعرضين لصدمة الحرب بشكل عام.
عندما التم شمل الزملاء جميعاً، طلبت الدكتورة مايا منا جميعا أن نترك الكراسي، ونذهب إلى خلف الطاولة ونتوسد الأرض. صرنا جميعا بمستوى أقصر من الطاولات. وهنا صارت تمشي أمامنا وهي تقول: أنتم بهذا المستوى في مجال رؤية الطفل، إنه لا يرى الأشياء من منظروكم، ليس لأن دماغ الصغير لا يحللها، بل لأن حجمه يجعله يمشي في حيز ليس مصمماً له.
إن الشيء الأكثر إرباكا للطفل هو البالغ، فهو ينظر إليه من أعلى، يعامله وفق ما يراه. يحتاج الطفل أن يظل مشدوداً إلى فوق لكي يتواصل مع البالغين، ومع الزمن تتشكل الفجوة بين هذين العالمين.
إذا طلبت من طفل أن يصف لك الطاولة، فهو سيصف أرجلها، بينما تستغرب أنت بأنه لا يفكر بسطحها من دون أن تدرك أن لا يرى ما تراه أنت!
أسوأ ما يمكن أن يتلقاه الطفل هو أن يجلس في الأسفل يراقب بالغيَن يتحدثان عنه، ثم يقوم أحدهم بمسح رأسه مغيّراً من لغته، متصنّعاً ابتسامةً وفرحاً، موجّها له بعض العبارات الصارخة كي ترضي البالغ الآخر. وأحيانا الانهمام عليه قبلاتٍ وأحضاناً!!
وهنا قدمت الدكتورة الخبيرة نصيحة ذهبية لنا كبالغين؛ إذا أردت أن تتكلم مع طفل انزل لمستواه، وكإعلاميين، إذا أردت أن تصوّر طفلاً، أخفض حامل الكاميرا إلى قامته. دع كاميرتك ترى ما يراه، لا تصنع مقابلة معه من فوق؟ وفي حال المقابلة ستكون مقابلاتك هي الأسوأ إذا لم كان هناك ميكروفون عريض يغطي نصف وجهه، وهو يحاول جاهداً أن يُبقي نظره مرفوعاً إليك!
جنون في غرفة الإعداد.
الفهم العميق لعالم ولغة الطفل تجعل من منتجي البرامج على دراية أكبر بما يقدمونه وبالموضوعات التي يطرحونها. وهنا عدنا إلى مقاعدنا وطاولاتنا لتطلعنا الدكتورة مايا، وأطلعتنا على سر تفوق المنتجين الأمريكيين على المنتجين الأوربيين بإنتاج مواد مشوقة وأكثر تأثيراً في الأطفال حول العالم.
إنها “غرفة الكتابة” التي تنتج بها الأفكار، غرفة المعدين والمنتجين الذين يقررون الشكل واللغة والمحتوى.
في استوديوهات شركات الإنتاج الأمريكية، غرفة الإعداد تتماثل مع عالم الطفل بمحتوياتها ومكاتبها وألوانها. وعلى المعدين والمنتجين والمخرجين أن يتحرروا ويتحولوا إلى أطفال يشاغبون ويلعبون خمس مرات في اليوم على الأقل.
تزود الغرفة بمختلف أنواع الألعاب لكل الأعمار الطفولية، وتنتج الأفكار بعصف ذهني ونفسي وروحي يُخرج من المحترفين طاقتهم الإبداعية الصادقة، وأذكى وأنفس ما لديهم. يضاف إلى ذلك العمل بروح الفريق، فالمنتَج النهائي يجب ألا يُنسب إلى فرد مهما تحلى هذا الفرد بالخبرة والإبداع، فبدون التوافق التام بين المنتجين والمعديين والمصورين، والإيمان بأهمية الرسالة الجماعية لن تجدي الأفكار مهما كانت عظيمة.
وهنا سألتُ الدكتورة مايا سؤالاً: ما دمتم كأوربيين تدركون سرَّ تفوق الأمريكان لماذا ما زلتم تتنتجون برامج أطفال مملة قياساً لما ينتجونه هناك في أمريكا؟!
فكانت إجابتها: من أجل هذه الفكرة بالذات، سيتم دعوة 450 منتجا أوروبيا إلى مؤتمر ميونخ لتطوير الإنتاج الأوربي، والتحدث عن غرفة الإعداد الأوربية.
العودة إلى الواقع
أعادنا إلى الواقع سؤال لإحدى الزميلات المشاركات ممن تعمل على الأرض داخل الأراضي السورية: حين قالت نحن نقوم بعمل تقارير وتغطيات من مخيمات اللجوء والمناطق التي تخلى عنها النظام، فماذا يمكن أن نقدم لطفل فقد البيت وشاهد ذل العائلة أمام عينيه، وعاين الفقد، وانتزع من أمان حياته تحت وابل من الأفكار والحقائق التي يعجز حتى الكبار عن تفسيرها؟؟
وهنا أجابت مايا: كإعلامي ليست مهمتك أن تعالج هذا الطفل، فأنت غير مؤهل لذلك.
ثم انتقلت بنا إلى عالم الأطفال المتعرضين لصدمات وهزات وجدانية عنيفة. لتخبرنا ماذا يمكن أن نقدم لهم كبشر أولا وإعلاميين ثانيا.
– أول ما يجب أن يقوم به جميع المعنين بإنتاج تقرير أو برامج تُعني بشؤون الطفل المتعرض للصدمة أن تكون مادتهم للأطفال وليست عن الأطفال! فحين تقدم مادة تكون في خلفيتها التقريرية أن الأطفال هم من يهمك أمرهم، تكون قد نجوت مما يمكن أن يسمى استغلال الأطفال، وإثارة التعاطف باسمهم لخدمة قضية مهما كانت عادلة. لكنها هنا تنهج أسلوبا لا أخلاقيا استغلاليا.
– يمكن لك أن تنحاز لقضية تراها عادلة بتقرير عن معاناة الأطفال. ولكن هذا التقرير لا يعنى برامج الطفولة. إنما يعني الكبار وصراعاتهم.
– في التقرير أو البرنامج الذي تريد مشاركة الطفل الفعلية فيه لا مشاركتك أنت عبره، عليك أن تتخذ خطوة للوراء، وتترك للطفل مساحته ليعبر بعفوية بعيداً عن انطباعات الكبار عما يقوله. هذا عامة، أما إذا كان الطفل في مكان استثنائي مثل المخيمات أو طفلٌ يعبر مع أهله في قوارب الموت، أو طفلٌ في مناطق منكوبة ومحاصرة. فعليك أن تكون مزوداً بحقائق إضافية تفوق المعد والمنتج والمخرج وحتى الإنسان العادي، يمكن تلخيص أهمها بالتالي:
– الطفل المتعرض للصدمة لا يستطيع أن يتعلم، يكف عن الاستقبال، والحفظ والتفاعل، لكي يحافظ على نفسه في حالة أمان
– الطفل المتعرض للصدمة، مهما بلغت الصدمة لا يفكر بالانتحار، الأطفال هم الفئة الإنسانية الوحيدة التي لا تفكر بالانتحار
– الطفل يحاول بهدوء أن يتفقد العالم خارج محيطه، فكلما وجد مساحة أمان بدأ بالتقدم والخروج.
– الأطفال الذين يتعرضون للترويع والصدمات يتجاوزونها أسرع بكثير من البالغين. ويبدأون بالتعافي بمجرد أن توفر لهم الحيز المستقر ولو نسبياً.
– الأطفال أكثر شجاعة داخلية من الكبار.
– إذا كنت إعلامياً محترفاً حاول ألا تستخدمهم في معارك إثبات وجهات النظر، ابحث عن نقاط المقاومة في داخلهم، وساعدهم ليطورها بكل الطرق الممكنة.
– في أسوأ الأماكن التي يعيشون بها، لدى الأطفال دوماً القدرة على الابتكار والتكيف، شجعهم ليعملوا ويتعاونوا.
خُلاصات مجربة:
– استمع لمأساة الطفل باهتمام، واستمع لما بعدها، دعه يتكلم عن جرحه أو فقدانه، ولا تركز على هذا الجانب. ثم اسأله عن نفسه ويومياته، ماذا يجمع؟ ماذا يفعل؟ كيف يتصرف؟ اكتشف بماذا يهتم، ركز باهتمامته وادعمه.
– لا تركز على ما فقده ( إن كان يرسم ما فقده شجعه ليرسم ما لديه) تفاعل بعطف لطيف مع فقدانه تفاعل بحماس أكبر مع ما لديه.
– دعه يثق بك، بقليل من الاهتمام والصبر. ركز على ما يفعله بيديه مهما كان بسيطاً، فاليد وما تصنعه هي من تقوده من الداخل إلى الخارج.
– حاول أن ترى أين تكمن قوة هذا الطفل، بالقراءة، بالركض، بالشقلبة، بالموسيقى، بالرسم، باللعب، واستمتع معه.
– لا تنتقد مكامن ضعفه لإصلاحها بل نمِ فيه نقاط قوته ليتبناها أكثر.
– ليكن الطفل هو مركز الحدث والقصة.
– ليكن تقريرك إيجابيا بحقه وبه مسّ من الأمل.
– لا تكذب عليه لا تعده بما لا تستطيع فعله.
– اعمل علاقة شخصية معه قبل التصوير تعرف عليه ودعه يطمئن لك.
– خصص له كل وقت التصوير باحترام وبحب دون مبالغة أو استعراض.
– حاول أن لا تسمح لأهله بالتأثير عليه حرره منهم ليكشف عن نفسه اكثر، لا عن الصورة التي يريدونها له.
– تذكر أن هدف الطفل هو أن يكبر، مهما كان ظرفه وقصته وشكل حياته الحالي. فهو يريد أن يكبر. يعني يريد أن يعيش، يريد أن يكون، يريد أن يغير ما هو عليه. لهذا لا يناسبه السؤال الساذج عادة (ماذا تريد أن تصبح بالمستقبل). بل ساهم معه بخلق تجربة بسيطة ليتعلم كيف يكبر بشكل أفضل.
– تذكر قد يكون اللقاء بك أهم حدث صار معه وربما يغير حياته. لا تستهن بذلك.
– ساعده ليتقبل أطفالاً آخرين إن لزم الأمر ليتعلم المشاركة.
– في بداية تشكيل ثقافته عن الاختلاف، ساعده لييتفهم ذلك. وعلمه أن كل مختلف لديه شيء إيجابي مهما كان ظرفه.
– لا تقمعه ولا تحاكمه. فهو يشعر بك أكثر مما تتخيل، إن كنت صادقا سيصغي وإن كنت تنظر إليه بإيجابية سينتبه ويثق بك. حينها استغل هذا الشعور الإيجابي وأعطه إعجابك بشجاعته، بموهبته، بأي نقطة قوية تراها فيه.
فُتح أمامنا عالم جديد ممتد بلا حدود يسمى عالم الطفل. وأصبح على الدكتورة مايا أن تغادرنا. أما نحن فكنا نستعد للقاء بأساتذة آخرين من أكبر خبراء العالم معرفة بشؤون هذه الفئة الغامضة، المجهولة، الهائلة، الرائعة التي تسمى.. الأطفال.
الصور المرفقة: – صورة الغلاف: نيروز أبو جمرة – من مجموعة “سوريات” – الصور الداخلية: من رسوم أطفال درعا في مخيم الزعتري