انتصر الألم على الكبرياء الزائف، فحوله إلى أكثر الرجال ندماً، حتى أنه تمنى لو أن الأرض انشقت وابتلعته قبل أن يأخذ طلابه ليعطيهم درساً في الهواء الطلق. هكذا كان يفكر بوجه مكظوم وعينين محتقنتين بدموع الأوجاع المذلّة، ورجله المعلقة التي تنزّ صديداً لا تتوقف عن تذكيره بحماقته.
يومها أراد أن يضرب عدة عصافير بحجر. أن يكسر الحاجز الذي يرتفع بينه وبين تلاميذه داخل جدران المدرسة المتهالكة، أن يخرج عن صرامة المنهاج الببغائي بتقديم درس التاريخ في الهواء الطلق، أن يبتعد بهم عن عيون وآذان باقي الأساتذة والموجّهين ليزرع في تربة عقولهم اليانعة بعض بذور التنوير، كما كان يسمي أفكاره.
أعجب الطلاب بالفكرة، بالأحرى أي محاولة لإخراجهم من المحبس الذي يُدعى المدرسة كان سيجد لديهم القبول الفوري. وبدلاً من الدفاتر والأقلام التي نسي معظمهم من فرط الغبطة إحضارها، تسلحوا بالنقيفات والمطاطات التي تستخدم لتصويب الأوراق الملفوفة على رؤوس بعضهم البعض، ولم ينسوا شراء الشموع، وطلب المزيد من المصروف بحجة التبرع للمقام. وقامت مجموعة منهم بنكش مزبلة فريال الخياطة لينتقوا منها القصاقيص والخرق، ليبيعوها لزملائهم ممن فاتهم إحضار شراطيط الأمنيات التي سيعقدونها على أغصان الشجرة المجاورة للمقام. صحيح أن تذمّر الأهالي اقتصر على طلبات زيادة المصروف؛ لكن أحداً منهم لم يعترض على الرحلة ولا حتى مدير المدرسة.. لم يكن أحد يبالي.. فليأخذ الأستاذ هؤلاء الشياطين بعيدا بعض الوقت..
نزل الطلاب من الباص راكضين، منهم من هرع ليقبّل جدران المقام، كما رأوا آباءهم يفعلون، ومنهم من تسلق الشجرة ليربط شريطته بعيداً عن متناول العابثين. ومنهم من سارع لدفن ورقة بأمنية تحت التراب، ومنهم من أخذ يسأل: مين معو كبريتة؟؟ ليشعل شمعته..
وقف الأستاذ يتأملهم مندهشاً، أي سبب عجيب يدفع بهؤلاء الصغار ليتصرفوا على هذه الصورة. جمعهم بصعوبة كأنه ينتزعهم انتزاعاً من انكبابهم المقدس..
التفوا حوله منتظرين لحظات الصمت التي تعمّدها ريثما يهدأون.. قال:
– هل تعرفون من المدفون في هذا المقام؟!
– سيدي العوّا.. أجابوا بصوت واحد، وبعضهم ابتسم كأن الإجابة بديهية لا تحتاج سؤالاً.
– من هو سيدي العوّا هذا؟ نبي مذكور بكتاب مقدس، رجل صالح ذو كرامات؟ أقصد هل له تاريخ، قصة معروفة، حكاية مكتوبة، أي شيء يجعلكم تصدقون أن هذه الشراطيط التي تعلقونها والأوراق التي تدفنونها ستساعدكم على تحقيق أمانيكم؟
نظر إليه الطلاب صامتين وعلى وجوههم علامات الاستنكار، أحدهم الأكثر حماساً والذي تسلق الشجرة أعلى من الجميع تقدم خطوتين وبدا متردداً.. – قل يا مطيع في بتمك كلام.
– أخي يا أستاذ، كل أهل القرية يعرفون القصة، كان بطلاً في الجري، يركض حافياً أسرع من حصان، صحا بيوم من الأيام، انثنت ركبتاه كعجينتين لينتين ووقع أرضاً، شُلّ تماما، ذهبوا به إلى المدينة، لم يتركوا طبيباً إلا وعرضوه عليه، ولم يستطع أحد أن يعيد له قدرته على المشي. حتى زار مقام سيدي العوا. قادته نساء القرية محمولاً على أكتاف الرجال. كان الجميع حفاة طيلة المسير. يرددون عبارة واحدة بركاتك يا عوّا، أمي كانت تبكي، وتنوح وراءها الجارات، ثم صار الكل يبكون، وعندما وصلنا إلى هذه البقعة بالذات صار أخي يرتجف وينشج ويصرخ بركاتك ياعوا، دخيلك ياعوا رجلي، ارتمى أرضاً وصار يتلوي وأصواتهم تعلو، استمروا يتمسحون بجدران المقام حتى غروب الشمس، صارت العبارة عواءً، ووسط حلقة الرجال زحف أخي بصعوبة زحف زحف حتى وصل إلى الشجرة، تشبث بلحائها وسحب نفسه إلى أعلى، صاروا يصفقون له ويشجعونه، بركاتك ياعوا بركاتك ياعوا، وفجأة وسط ذهول الجمع، وقف على قدميه، وقف بعد عشرة أشهر من الشلل، وصار يرقص ويبكي ويضحك ويعوي..
أيّد الطلاب المنصتين كلام مطيع بالاستحسان:
– نعم يا أستاذ هذا مقام مبروك
– أختي حبلت بعد نذر عقدته أمي هنا
– عاد والدي الذي اعتقدوا أنه مات في الغربة
– لا يوجد بيت في القرية إلا وحدثت فيه معجزة بفضل هذا المقام..
نفخ الأستاذ نفخة طويلة، شعر أن مهمته أكبر بكثير مما تخيل، صفن محاولاً أن يجد ثغرة يدخل منها إلى هذه التربة اليانعة المسوّرة بالصوّان المستوف منذ عدّة أجيال. أرجأ الإجابات وقرر البدء بإثارة الأسئلة:
– ألم يخطر لأحدكم أن أخا مطيع ربما يكون متعباُ أو مريضاً مرضاً نفسياً مؤقتا أقعده ثم زال عنه.
– لا تغلط يا أستاذ.. ردّ مطيع غاضباً، أخي ما كان أخوث.
شعر أنه يتورط أكثر ويفقد هدوءه فزخهم بمجموعة متتالية من التساؤلات جعلت من أبوازهم مرخية، وعيونهم محدقة به تكاد لاترمش.
– كيف يمكن لجثة رجل ميت، إذا كان هناك أصلا ميتٌ مدفون، أن تشفي أو تساعد؟
لماذا حين تعرّض المقام للسرقة من اللصوص عدة مرات لم يدافع عن نفسه؟
وأخيرا ما الذي يميز هذه الشجرة عن شجرات الزيتون في كروم بيوتكم؟
والأهم أنه خلال كل تلك السنوات لماذا لم يشف من الشلل غير أخيك يا مطيع؟
صمت مربك تخلله حفيف الأغصان في الشجرة المباركة، تبعه صوت خجول يكاد لا يسمع:
– ألا تخاف يا أستاذ من أن يسخطك سيدي العوّا لأنك تستهزئ بمقامه؟!.. قال ولد عاقل.. يومض في عينيه الخوف هنا استفز الأستاذ:
– لا.. لا أخاف وسأثبت لكم أنه مجرد مكان تافه يمنحه الناس أهميّة بالترّهات. لكل شيء تفسير منطقيّ أو علميّ، أما الغيبيات والبركات والكرامات فهي مجرد خرافات شعبية يعززها الناس بتداولها قيل عن قال.. أنا شخصيا سألاحق كل قصّة من القصص المرويّة عن هذا المقام وأفسّرها لأثبت لكم أن الوهم والإيحاء يعبث بالعقول الجاهلة.. بركة مقامكم هذا تحت قدمي..
وهو ينطق بالجملة الأخيرة شدّ رجله إلى الوراء وضرب بقوة زاوية البناء الطينيّ.. هنا حدث أمر غريب جعل الطلاب كلهم يتراجعون بخوف، ويحجمون جميعا عن الاقتراب من الأستاذ.
حظه العاثر جعله يضرب رجله التي ينتعل فيها صندلاً بحرف ناتئ من جدار المقام.. صرخ صرخة قوية تردد صداها في أنحاء المكان المقفر، طارت عصافير الشجرة، وقع الأستاذ من الألم وجفل التلاميذ..
– شفت يا أستاذ؟!! قال التلميذ العاقل صاحب الصوت الرفيع.
تقدم سائق الباص وحمله، لأن أيا من التلاميذ لم يتزحزح من مكانه، كانوا يتفرجون عليه بشماتة.
أصبح حديث القرية.
لم يخفه الجرح في البداية، على الرغم من أن نبع دم تفجر من إبهامه. لكن الصورة الشعاعية أظهرت كسراً ثلاثياً في مشط القدم أقلقه. أتكون لعنة العوّا حلت عليه؟. تباً للخرافات. سخط على نفسه لأن هذا الهاجس تسلّل إلى منطقه وعقله.
بعد شهر كامل من المكوث مجبّراً تبدّت خطورة الجرح الذي التهب تحت طيات الجبصين، كان عليه أن يكشفَه ويتركه عرضة للهواء، لكن الأغبياء جبّروا الكسر فوق الجرح.
لم يعد يستطيع النوم من الألم.. كلما انتبه وهو مسجى في فراشه أنه لا يستطيع التلّقب على الجنب الآخر، ولا حكَّ رِجلٍ برجل، ولا أن يقوم إلى الحمام لقضاء حاجته بالسرعة المطلوبة، تعود إلى ذهنة لحظة ضرب رجله بزاوية المقام. وأشدّ ما كان يؤلمه أن هذه اللّحظة تعود حاملة معها الحوار الذي دار بينه وبين مطيع، ومشهده وهو يتلوى على الأرض والتلاميذ لا يحرّكون ساكناً.. وإذا حدث وغرق في النوم، وهو ما أصبح نادر الحدوث، يرى وجوه الأولاد ويسمع أصواتهم، لا تغلط يا أستاذ، ما بتخاف يسخطك العوّا، لا تغلط يا أستاذ، ما بتخاف يسخطك العوّا، ما بتخاف العوّا، رح يسخطك العوّا…
مشايخ القرية بدأوا يتوافدون إليه ومعهم ضيوف، في البدء كانوا يدّعون الاطمئنان على صحته. ولكنَّ تعابير الزوار المرتابة وتحديقهم المطول بإبهامه الأسود المزرق، أشعرته بالغرض الحقيقي وراء الزيارة..
لقد أصبح عبرةً لمن يعتبر. صرخ وقد جن جنونه:
– أنا مالي فرجة. ما عاد بدي شوف حدا.
امتد الالتهاب إلى الساق، أخبروه أن عليهم قطعها فالغرغرينا تنتشر بسرعة هائلة.
بدا له أن لا مناص من الاستسلام، فهذه المكابرة ستودي به. كان أخر ما يودُّ سماعه في ذلك اليوم هو جملة الدكتور شكيب:
– أتعرف يا أستاذ أنه بعد أن عجزنا عن الانجاب كانت زيارتي مع زوجتي للمقام كفيلة أن تملأ البيت بثلاثة توائم.. مهما احتكمنا للعلم، هناك أمور تحدث بالصدفة لم يعرف سرّها. نصيحة.. راجع نفسك وروح اسستغفر الشيخ العوّا؟ عله يشفع لك؟
وقّع الدكتور على تقرير إجراء العملية وخرج، تاركا إياه يتمرّغ في قاعٍ مُذل. قرر أن يعلن استسلامه. ويزور المقام المبارك طالبا للصفح.
مرت سنوات طويلة على تلك الحادثة، فبعد أن اشتدّ مرض الأستاذ سعد الواوي، نذر أن يخدم المقام رافضا مغادرته، يتذكّره الزوار برجل واحدة وعكاز خشبي، يحكي حكايته لكل من يمرّ بالمكان ويوزع الشموع ويبيع مزق القماش. يقال إنه ظل يبكي حتى أسلم الروح. موصياً أن يُدفن تحت الزيتونة. مات قبل أسبوعين من قرار الدولة إزالة المقام من الوجود لوقف سيل الحجيج وطالبي الاستشفاء. الدنيا مو فوضى. هكذا قال الموظف المسؤول عن تنفيذ أمر الإزالة. تجمع أهل القرية والقرى المجاورة أثناء الحفر، منتظرين أن تشلَّ يدُ سائق الجرّافة، لكن شيئاً لم يحدث. وشاهد الجميع بخجل كيف أخرجت الكماشة الآلية من داخل القبر بقايا عظام.. عظام كلب.
تدارس المشايخ الأمر على عجل، الدخل سينقطع، سيمتنع الزوار عن القدوم من كل المحافظات إلى قريتنا وعن التوقف في استراحتنا وعن شراء حاجياتهم من دكاكيننا، الدولة ستنسانا بعد حين، المسؤول الذي كان يريد أن يفتتح فندقاً للسياح نفض يده من المشروع. علينا أن نجد حلاً سريعاً لنحافظ على معيشتنا وازدهار قريتنا، وعلى السّمعة الروحيّة للمكان.
توحّد أهل القرية، تشاركوا في جمع المال لبناء مقام جديد، يعرفه حجيج اليوم بمقام الواوي.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.