ولادة: 1982
في ذلك العام الملتبس على التأريخ الساقط سهوًا من اجتماعات المهتمين بقضايا الحقوق والحريات كان قدومي إلى الحياة كآخر طفلة لعائلة من ستة أفراد. كنت تلك الشعرة نعم.. فما أن صرخت أولى صرخاتي حتى تلقفتني إحدى خالات أبي التي قدمت للإطمئنان عليه بعد أن أجريت له عملية ديسك ثالثة أسفل الظهر شلّت حركته وأجبرته على ملازمة الفراش، حينها وجد العويل وهو طقس الجدات الحميم ظرفا مناسبا ليغري الخالة المعروفة بشؤمها من المواليد الإناث، الإسهاب بضرب رأسها بكلتا يديها، مرددة عبارات بصوت شجي تبتهل فيها الله وترجوه بأن يعيدني إليه بأسرع وقت ممكن. لينجو والدي من مرضه “القاتل” بحسب إعتقادها الأزلي بأن الجراحة هي درء لموت وشيك أكثر منها إنقاذًا للحياة. والحقيقة أنني لا أتذكر ردة فعل أمي ولا أي شيء آخر مما حدث وما ذكرته كان ما قالته الخالة لي فيما بعد وهي تصر على احتضاني كلما إلتقيتها معاتبة نفسها لما فعلته ذلك اليوم.
أن تولد في الثمانينيات يعني أن يحتضنك العوز ويهدهدك الحرمان وتغني لك الجارات موشحات لاتفهم منها سوى بحة الألم في أصواتهن تُقرّع أذنيك. أن تتعرف على الإشتراكية وأنت تقظم حصتك من رغيف الخبز المُقسّم على خمسة. وأن تكتشف فيما بعد أن هناك شيئا ما في الحياة يدعى “الخصوصية”. أن ترى الجميع يبحث عن كل شيء ويجدون اللاشيء. أن تتقن ألف وباء التدبير قبل أن تدخل صفك الأول فهي الطريقة الوحيدة التي تعلمتها في أسرة من سبعة أشخاص، تقنين في كل شيء إن وجد فالمواد التموينية مفقودة والقسائم التي تعطى في المؤسسات الإستهلاكية تكفي لنصف شهر بالرغم من كل الإضافات والمفاجآت التي زادت من وزنها واستنفذت جهد ربات البيوت لتنقية حفنة منها.
في الثمانينات أنت لا شيء ولا شيء لك لأنك ولدت في زمن خاطئ. زمن الأحداث الدامية والتصاق اللقب بالقاتل دون تهمة ودون محاكمة بالرغم من الأشلاء المتطايرة على ضفاف الميماس، التي غرقت جميعها في قاع الكتمان، بعد أن أُحرقت البصمات وأُعدمت الأدلة ولم يبق من يسرد دبق المذبحة ومن كتب له النجاة ابتلعته وحشية الفكرة. ذلك زمن المتشبث بالعدم الهارب من صوت طرقات الباب المتقوقع في احتمالات الشبهة، المرغم على ابتلاع اللسان خوفا من التلفظ بالحقيقة! وإن ولدت في ذاك الزمن يعني أن تجرجر طوال حياتك ظلا لأرواح تطوف يوم ميلادك لتذكرك بموتها…
فضول: 1992
كنت قد أكملت العاشرة بكامل فضولي الذي قادني لأقضي أيامًا وليالٍ من الخوف والإضطراب كنت كسائر الأطفال أعتقد حين سماعي أو رؤيتي لحدث ما أنه بالضرورة سيحدث لي فأنا لابد أن أكون بطلة تلك القصة وأتقمص الدور كاملا وإن كان لا يتناسب وعمري لكن ذلك لا يهم فذلك كبرياء الأطفال وشجاعتهم.
كان مكتب والدي يبعد بضعة أمتار عن المدخل الخلفي للبيت، داخل غرفة ذات سقف منخفض بنيت تحت شجرة الليمون الكبيرة، وهي غالبا مقفلة وكان الوحيد الذي يملك مفتاحها. كنت ألمحه وهو يخرجه باحثا في جيوبه عن علبة سجائره حمراء اللون وعلبة الكبريت. كان المفتاح الوحيد في شريط معدني أسود ذو حلقات صغيرة. ذلك الغموض كان بمثابة دعوة جنونية لي لأنتهز أي فرصة تقودني لإكتشاف ذلك الذي استدعى كل تلك السرية.
كان ذلك في أحد أيام شهر شباط والمعروف أن الرياح في شباط الجبلي قاسية لدرجة تشعرك بأن الدفئ لم يعرف طريقه إلى جسدك مسبقا، فتختفي الكائنات جميعها من شدة البرد والبشر وحدهم من يتحايل دائما على الطقس ليستمروا بممارسة أعمالهم وسهراتهم واجتماعاتهم أيضا ومن تلك الاجتماعات ثلاثة علقت في ذاكرتي إلى الآن أولها اجتماعنا في عيد الأضحى في بيت جدي وأكلة جدتي الشهيرة “شيش برك”، والثاني اجتماع لقراءة الميثاق في مجلس القرية بصحبة جدتي في السادسة. وأما الإجتماع الثالث في الحقيقة لم أحضره لكني قرأت نصه وياليتني لم أفعل، يومها سمعت الباب الرئيسي للمنزل يغلق ويخرج والدي مع بعض أصدقائه، بعد مغادرتهم الغرفة، كنت قد رأيتهم يدخلون، كانوا يأتون بالتتابع، وغالبا ميزتهم من ملابسهم قبل وجوههم التي لم يبدلوها يوما وكأنها ”تاتو”.
لم أكن أفتقد الفضول لأتتبع حركاتهم من النافذة عند موعد مغادرتهم أيضًا كانوا خمسة رجال غالبًا وأحيانًا قليلة ستة، وجرت العادة أن يخرج أبي بعد مغادرة الجميع، فيقفل الباب ويعود ليأخذ قسطا من الراحة في غرفة الجلوس، ينزع فروته السوداء السميكة الدافئة ويضع نظارته بنية الهيكل مربعة الشكل جانبا كنت أنطر إليه عن قرب ترافقني المدفأة بهديرها المتواصل، كان ذو بشرة فاتحة وعينين عسليتين، أنفه منساب بجمال ومرتفع قليلا من الأسفل، جبهة عريضة زاد اتساعها نحو الأعلى بعد أن فقد شعره في مقدمة الرأس. ذقنه حليقة دائما لم أذكر يومًا أن رأيته بلحية أوحتى بشارب خفيف. كان رجلًا وسيمًا.
يومها خرج مع رفيقيه المتبقيين وترك المفتاح سهوًا في قفل الباب الذي أوصده وتابع حديثًا كان على ما يبدو مهمًا فقد شغله معهما وقتًا كافيًا مكنني من التسلل باتجاه الغرفة بعد أن تأكدت من انهماكهم في نقاش حاد في الجهة الأمامية من المنزل.
بسرعة أدرت المفتاح ودفعت الباب الحديدي بقوة ليفتح أخيرًا، أغلقته مباشرة وكنت قد أسندت ظهري ليلتصق به، فكرت بأني إذا وجدت شيئا مخيفا في الغرفة سيكون هروبي سهلًا فأنا قريبة جدًا من المخرج ومستعدة للتراجع. كانت دافئة وعبقة برائحة السجائر التي اقتحمت أنفاسي وتسببت لي بموجة من السعال أنهيتها بشرب رشفة شاي من إحدى الكؤوس الموجودة على الطاولة الخشبية الصغيرة وسط الغرفة.
تفحصت الغرفة بنظري لأتأكد من خلوها من أشياء أو مخلوقات غريبة ربما فلم أجد شيئًا، المكان آمن. في الوسط تربعت “صوفا” من الحديد ذات مقاعد من الإسفنج المنجد بقماش مخملي أخضر وكان لها على الجانبين مساند خشبية. إلى اليسار كان ممر صغير يفضي إلى مستودع صغير وضعت فيه مؤن البيت وسلل اللوز اليابس وكميات من زيت الزيتون، بالإضافة لكرسي من الخشب القديم ومدفأة كهربائية صغيرة. وإلى اليسار كان هناك مكتب وكرسي بمقعد جلدي أسود تمامًا كالتي تجلس عليها معلمتي في المدرسة كانت طرية ودافئة لاتشبه أبدًا مقاعدنا الخشبية، جلست عليها متخذة وضعية الكبار وبكل ثقة رحت أقلد معلمتي وأضرب بيدي على سطح المكتب فلم أكن أحمل عصًا مثل التي امتلكتها هي.
– هدوء ما بدي اسمع ولا صوت. مش عم تفهموا. بشغل العصاية هاه.؟
رددت جمل معلمتي على لا أحد. ثم بدأت أتفحص ما وجد على سطح المكتب كان هناك أقلام حبر وأوراق بيضاء للكتابة بلون أقرب إلى الأزرق الفاتح. تحت الزجاج الذي غطى سطح المكتب عرضت صور للعائلة، إحداها كانت لأبي وأمي معًا، ترتدي فيها أمي فستانا بلون أزرق حتى الركبتين مزين بورد أبيض وزهري وتضحك ضحكة عريضة تظهر خديها بلون حمرة كوردتين جوريتين وينسدل شعرها الأسود إلى كتفيها ممسكة بيدها وردة كانت على ما يبدو تهم بقطفها. ويبتسم والدي لها وبحركة من يده بدا كأنه يسألها عن شيء ما. ربما عن سبب ضحكتها. كان يلبس بدلة بلون طحيني بأكمام قصيرة وجيوب مربعة على الجانبين وأزرار بنية كبيرة. وعرضت أيضا بطاقات معايدة عليها صور لمناطق من العالم كانت تصل لأبي من أصدقائه الذين في الخارج.
ومصنف أسود اللون يحوي أوراقًا كثيرة ودفترًا صغيرًا ذو غلاف جلدي أحمر بداخله.
الأوراق كانت كثيرة ومليئة بكتابات لم أفهمها في البداية. كانت مرقمة في الجانب الأيمن بأرقام ضمن دوائر. من واحد إلى ثلاثة عشر. بدأت أتفحص الأوراق ميقنة بأنه طالما أن الغرفة لا تحوي أي شيء ذا أهمية يجعل من اقفالها ضرورة دائمة فلا بد أن تكون هذه الأوراق هي ذلك الشيء المهم!
تعذيب:
بدأت بقراءة العنوان:
(الحزب الشيوعي السوري)
الاجتماع رقم (لم يكن هناك شيء بجانب الجملة).
التاريخ (لم أعد أذكره).
كانت هناك إشارات تحت كلمات معينة وأسماء بين أقواس ومما أذكره أن الجملة التي جعلت مني سجينة سياسية أُعتقلت وعُذبت حتى الموت كانت:
” وقد اعتقل الرفيق “م. ح ” من بيته في التاريخ المذكور إثر وشاية حددت موعد الإجتماع الحزبي الشهري وتوقيته، الذي كان مقررًا في منزله، سجن قرابة تسعة أشهر وعذب بطرق وحشية كثيرة كانت أولها الفلقة ثم وضع على جهاز النفخ ونفخ حتى تمزقت أحشاؤه وأصيب بجلطة في القلب أدت إلى وفاته ”
اعتقال؟. تعذيب؟. عذّب. كيف يعني. شو يعني نفخ ؟
أسئلة أرعبتني في تعرفي الأول على ذلك الشبح الذي لازمني أيامًا بلياليها متخيلة نفسي مكان ذلك المعتقل أعذب وأعذب حتى الموت. ولم تكن محاولاتي بإبعاد الفكرة عن مخيلتي مجدية إلا بعد أيام أسعفتي بعدها ذاكرتي بنعمة النسيان لأتمكن أخيرًا من تجاوز ذلك الخوف من أن هناك عالم آخر غير عالمنا هذا، عالم مظلم متوحش بلا رحمة. عالم ظالم. ذلك الظلم الذي استشعرته مع أني لم أكن قد خبرته بعد ففي العاشرة وبالرغم من مشاعري السلبية حيال معلمتي الغاضبة دومًا والتي توبخني بشدة كلما رأت حشرات صغيرة في رأسي، إلا أنّي لم أكن قد وصلت بإحساسي إلى تلك الدرجة التي أثارتها بي قصة موت المعتقل تلك وجعلتني أختبره بذلك القرب المخيف ففي العاشرة لا تكون أنت ولا أي شخص آخر، تكون حالة تحول وفقط، حالة انفتاح على سؤال لا يجيبك عنه أحد. ” من أنا ؟ وماذا سأكون ؟ ”
وأعتقد اليوم أن في بلادي لم يستطع أحد يومًا توقع مصيره المفتوح على الإحتمالات وربما المحبوس داخل قضبان منها لا في العاشرة ولا في أي مرحلة عمرية أخرى. لازمتني قصة المعتقل “م. ح” حتى هذا اليوم وأستطيع أن أتخيل ما عاناه أطفاله من ألم وخوف حين علموا بالطريقة التي أدت لوفاة والدهم، فهم تعذبوا أيضًا بلا شك. التعذيب الذي كان سببا من أسبًاب اندلاع الثورة السورية والذي تعرض له حمزة الخطيب ورفاقه لم يكن حدثًا جديدًا، إنما ظهر إلى العلن، طفى أخيرًا فبانت وحشيته. كان هناك مئات الأطفال وربما الآلاف ممن تعذبوا “نفسيا” بصمت منذ بدأ حكم الأبد البعثي، ذلك التغييب القسري والاعتقال والسجن لعشرات السنين والمؤبد والتصفية الجسدية التي تعرض لها آلاف السوريين الذين تركوا في بيوتهم أجيالًا من الطفولة المعذبة والمراهقة المهزوزة المليئة بالأسئلة الكبيرة والمخيفة التي لم يتلقوا جوابًا عنها لأن أحدهم لم يتجرأ يومًا على سؤالها.كيف يمكن أن يرغم طفل على أجتزاء جزء من كيانه، من حياته من جيناته إن كان أباه أو أمه، أخوه أو أخته، ويعيش كاملًا؟، ويستمر طبيعيا وكأن شيئا لم يكن ؟
جيل أحداث حماه، ومذبحة تدمر، جيل الملاحقات التي لم تنته واحتجاز أفراد عائلة الملاحق أمنيًا حتى يسلم نفسه وما رافق ذلك من الإنتهاكات والإغتصاب الذي جعل من “أنيس” طفلًا من بين آخرين كثر لم تعرف أسماؤهم، وليد زنزانة الخوف.الطفل الذي التقى به الكاتب “ميشيل كيلو” في فترة اعتقاله حين نقله الحارس إلى الزنزانة حيث وجد فيها إمرأة معتقلة مع طفلها، وهو أبشع ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في حكم الاستبداد والانتهاك.
أن يولد طفل في معتقل. طفل نتاج اغتصاب محكوم بألف حكم قبل أن يولد. طفل لم يعرف ما معنى عصفور. فهو لم يره يومًا، وما معنى شجرة، فلم يتسلق سوى قضبان الزنزانة الحديدية منذ أبصر الحياة دون أن يبصر النور.
جيلٌ كان يغلي من ألم التعذيب وما أن رأى جسد حمزة الخطيب وقد اُنتهك بتلك الطريقة اللاآدمية حتى عادت ذاكرته لتسترجع قصص الآباء والأمهات الأخوة والأخوات الذين حكم عليهم أن يكابدوا ويلات التعذيب والموت بذات اليد وبنفس الأداة والطريقة فانتفضوا.
وكلٌ كان له ثأر دفين مع نظام حكم على أجيال فجروا أخيرًا ما في داخلهم رافضين أن يحكم على حاضرهم ومستقبلهم كما حكم على ماضيهم وذكرياتهم موتًا تحت التعذيب.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.