“الطفل الذي اقتصر تعليمه على المدرسة هو طفل لم يتعلم”
جورج سانتايانا.“طفل لم يتعلم هو طفل مفقود”
جون كنيدي
سيكون حضور دورة تدريبية للإعلاميين عن الأطفال مداعاة لعدم الاهتمام أو حتى السخرية من الكبار المشغولين عادة بأمور أهم، وينظرون إلى هذه الشريحة من الكائنات الحية التي تدعى الأطفال، بفوقية الأكبر حجماً، والأصغر قلباً، ناسين أنهم كانوا يوما هناك تحت يكرجون على الدروب، وينظرون إلى الأعالي وينتظرون أن يكبروا.
أعترف أنني ذهبت إلى الدورة المقامة في اسطنبول، المنظمة من قبل دويتشه فيله، المؤسسة الإعلامية الألمانية العريقة، بمثابة الحدث الأكثر تأثيرا بحياتي الشخصية والمهنية خلال السنوات الماضية.
كانت لافتة DW بانتظارنا خارج المطار، ونحن سبعة أشخاص من دبي، من أصل سبعة عشر مشاركاً في الدورة الهادفة إلى تدريب كادر عمل على انتاج برامج للأطفال السوريين والعرب بمواصفات محترفة.
كانت الأفكار النمطية عن المحاضرات، وخبرتي كأب جديد يعايش طفلا منذ عامين ونصف مع خبرة قديمة مكتسبة من العمل لصالح الأطفال على امتداد بضع سنوات خلت، شحنتني بالفوقية بأنني لن أجد أي جديد سوى بعض التقنيات الحديثة التي لن تزيد على خبرتي إلا القليل.
بمثل هذا الشعور المعزز بالثقة القريبة من الغرور نزلت إلى القاعة في الساعة العاشرة إلا خمس دقائق، لأجد الدكتورة مايا غوتيز جالسة بالانتظار بابتسامة واسعة، وحيوية فريدة لامرأة بالعقد الخامس من عمرها. قالت لي: حين نقول في ألمانيا إن الموعد في الساعة العاشرة فهذا يعني أن الموعد في العاشرة إلا ربعاً!!
قلت لها نحن العرب نضرب المواعيد بناء على الزوال، أراك اليوم مساء، أو في الليل، موعدنا بعد صلاة العشاء أو بين العصر والمغرب. الزمن عندنا كتلة وعندكم خط، وبهذا يتحدد الفرق بكل شيء.
أنصتت باهتمام وضحكنا، بينما كانت القاعة تمتلئ بسبعة عشر طالبا، ومترجمين، ورئيسة المشروع، ومنسقه، ومحاضر آخر لن يتكلم اليوم. والدكتورة مايا الحاصلة على دكتوراه من جامعة كاسل بعنوان التلفزيون في الحياة اليومية للفتيات. لتتبعها بمجموعة من الأبحاث التجريبية حولتها واحدة من أهم الأخصائيين في علم التلقّي والاتصال في عالم الطفل، لتشغل أخيرا منصب مديرة المركز الدولي التخصصي بمجال الأطفال والاتصال.
أَكَلَةُ الطبيخ
بدأنا بالتعارف العملي، كل شخص موجود يتكلم عن نفسه بشكل مختصر ويحدد الوجبة المفضلة في طفولته. لنكتشف أننا كمتدربين، معظم أكلاتنا المفضلة في الطفولة، هي المعكرونا، المكدوس، الشيش برك (أكلة شعبية سورية مكونة من اللبن والعجين واللحم)، المقلوبة(رز ولحم وبتنجان) والكثير من الأكلات المنزلية الشهيرة. وحين انتهينا من التعريف بشغفنا كان التساؤل الأول من فريق التدريب: ألا يوجد بينكم واحد كان يحب الأيس الكريم أو الحلوى؟؟
من هذا المدخل ولجنا إلى عالم الطفولة، متبوعا بطلب من الدكتورة مايا بأن يرسم كل واحد منا الشخصية الكرتونية التي كان يحبها في طفولتها، وهنا انكببنا نشخوط على دفاترنا صور تلك الشخصيات العالقة في الذاكرة البعيدة، لنجد أن روبن هود، وسيلفر القرصان، ريمي، ساسوكي، ليدي أوسكار، وغيرهم قد انضموا إلى القاعة.
من طبق طفولتنا إلى شخصية التلفزيون الأكثر تأثيرا في مخيلتنا. انفتح الحديث الأول كيف تنال انتباه الطفل وتجذبه، سواء في الحياة الخاصة أو عبر مادة إعلامية أو تربوية؟
لعبة الجريدة
مايا المسؤولة عن أكبر مركز للدراسات في أوروبا لتنمية الإبداع، وتدرّب أكثر من 450 منتجاً في أوروبا لتطوير إنتاجية وفعالية البرامج المنتجة لهذه الفئة البشرية التي سيقع على عاتقها قيادة المجتمعات بعد عدة سنوات. طرحت علينا السؤال التالي: عن ماذا يبحث الأطفال؟ وكيف يمكن أن تحوّل أدواتٍ وأشياء تبدو بمنتهى الجدية والملل إلى وسيلة أكثر إثارة تقرّبك من الطفل، وتطلق مخيلته، وتشيع بينك وبينه نوعاً جديداً من أنواع التواصل الذي يخصُّ عالمه؟؟
استشهدت مايا بالجريدة اليومية كمثال. فهي من أكثر الأشياء إثارةً لملل الأطفال، جديتها صورها، شكلها، وألوانها، كل ما فيها لا يمت لعالم الطفل بصلة، والأهم هي بمثابة الحاجز الذي يفصل الأب عن الطفل في المنزل أو المطعم، يختفي الأب خلفها أو يغرق فيها بصمت.
الفكرة الأولى تقوم على ماذا يمكن أن نفعل بجريدة بعد الانتهاء منها، عوضاً عن رميها؟؟
عرضت علينا المثال الأول على الشاشة. برنامجٌ يقوم فيه المقدم برفقة مجموعة من الأطفال بتوزيع صفحات الجريدة، محولا إياها إلى زوارق وطائرات ورقية أو قصها وتحويلها إلى أشكال متناظرة، أو لفّها على شكل هراوة ورقية وتحويلها لأداة للعب.
وبعد عدة أفلام وعروض، ممهورة بنتائج لاستطلاع رأي الأطفال وتحليل مضامين الصورة والأثر والتأثير يمكن اختصار النتيجة بالتالي:
- الاستيلاء على انتباه الطفل يجب أن يسبق أي معلومة أو فكرة أو نصيحة أو تفاعل تريد تقديمه له.
- الأطفال يمتلكون قدرة متطورة جداً لايهامك أو تضليلك أو مسايرتك.
- استخدام الترهيب أو التخويف يؤدي عادة إلى تكريس الفكرة المرجوّة بصورة إما متطرفة أو عكسية.
– لا تحاول إثارة التعاطف لدى الطفل، فهو يمكن أن يمنحك تعاطفه لثوان معدودة. فالدماغ الأيمن مسؤول عن المنطق والأيسر مسؤول عن الحس وما بينهما مسؤول عن الإبداع. في مرحلة الطفولة تكون منطقة الإبداع في وضع متقدم وجاهز للتلقي في حال عرفت كيف تصل إليه. وهذا الدماغ الأوسط ينزوي تدرجيا مع تقدم العمر, وتضخم أحد الدماغين على حساب الآخر، وقد يختفي تماماً إذا لم نحسن التفاعل معه، وتحريضه.
بحشو أدمغة الأطفال بالغيبيات أوالأوهام عن طريق التعنيف والترهيب أوالترغيب المبالغ به يتم عطب الدماغ الأوسط المسؤول عن الإبداع والابتكار وتوليد الأفكار على حساب أحد الدماغيين السطحيين. فنخسر كائنا بشرياً، قد يكون مشروعاً لمنقذ للبشرية أو موهبة خارقة في أحد الفنون أوالعلوم.
اللعب شحن لطاقة الكبار والصغار
لا يوجد طفل غبي مهما كانت عدم استجابته لما تقدمه له، إنما هناك بالغ لا يعرف كيف يجد نقاط القوة والتمايز في الطفل الذي يعمل معه أو يربيه. فجهلك بلغة الطفل وعالمه وأفكاره، وأحاسيسه هي التي تحوله لطفل متأخر أوخائف أوعنيف أومتبول لا إرادي في الليل.
– لغة الطفل الحقيقة لا تشبه لغتك لأنه لا يملك غزارة مفرداتك، ولكن إن راقبت لغة جسده وسلوكه فقد تفهم وتتفهم لماذا وكيف يتصرف عكس ما تريد.
- إنه كائن بطور الحرية الخام وأنت كائن مكتمل القوانين.
- إنه كائن يعرف أكثر مما تتخيل ويسعى للتواصل معك ولكن بلغته وليس بلغتك.
- إذا كان هناك سوء بالتواصل فأعلم إنها مسؤوليتك وليس مسؤوليته.
– إنه كائن يستحق الاحترام والاهتمام والوقت، مثله مثل أي بالغ تحرص على وجوده بحياتك، غير أنك لا تثق به وغير مقتنع بحقه وقدراته. ولأنك أكبر منه حجماً، وما تلقيته يسبق عمره بسنوات، ولأنك أقوى منه جسدياً، تظن أن هذا يعطيك الحق بالتحكم بعالمه وفرض شروطك ومزاجك عليه.
– الطفل يقدم لك الرضوخ، وهو غالبا عاجز عن مواجهتك، ولكنه سيتحين أول فرصة ليعلن تمرده عليك بطريقة تذهلك وعندها قد تكون النتائج كارثية.
– من المفيد عرض بعض المفاتيح من التي يحبها الأطفال، ومما لا يحبونه. فقد تفيدنا جميعنا سواء عملنا بالإعلام أو التربية أو حتى كنا مجرد أباء وأمهات.
– في الطور الأول من الطفولة الأطفال. تبنى المفاهيم قطعة قطعة، فساعدهم بإيجاد أجوبة عن محيطهم بالاعتماد على الحواس، ليختبروها ويكتسبوا المعرفة وفق ما تقدمه لهم.
لم ننتبه إلا والساعة تشير إلى السابعة مساء، لا أذكر كيف أكلنا وجبة الغذاء ولا كيف أخذنا استراحات خاطفة، فقد كنا بحالة مدهشة من التفاعل والاستعداد الجسدي والعقلي والنفسي للتلقي والتعلم والاكتساب.
وكنا كلما انخفض إيقاع حماسنا، تخرجنا الدكتورة مايا من كراسينا وتجعلنا نلعب ونطير ونحلم. نشحن طاقة أجسادنا بالحركة. ببساطة لقد أعادتنا أطفالا. فلا يمكن أن تعمل مع الأطفال إذا كنت مصراً على وضع الأقنعة وربطات العنق.
الصورة : للدكتورة مايا
موقعها http://www.maya-goetz.de ملاحظة : نشر هذا المقال في العدد الماضي 10-12 -2013 من مجلة آرى التي تصدر في دبي.
أغبطك على هذه الدورة أخي فادي وياريت توثق باقي الجلسات وتنشرها . تحيتي لك