وتكثرُ في أريافٍ عدّةٍ من سوريا ، وربّما في بعض البلدانِ الأخرى التي لا تزالُ خاماً في أريافها ، ظاهرةُ كِنايةِ الشخصِ باسمِ أمّهِ حين مناداتهِ أو الإشارةِ إليه .
كأن يقولوا “أحمد خديجة ، علي سعاد ، محمد زهور ، محمود نجاة … إلخ إلخ “
ويعودُ ذلك لكثرةِ تكرّر مجموعةٍ صغيرةٍ محدّدةٍ من الأسماءِ، في العائلة الواحدةِ، إلى درجةِ أنّ بعضهمْ، يُكنّى باسمِ زوجتِهْ، لأنّ اسمهُ واسمُ أمّهِ يكونُ موجوداً في العائلةْ
وبالطبعِ هنا أتحدثُ عن عوائلَ قد يتجاوزُ عددُ أفرادِها مما يسمّى بـ”قَرابة الدرجة الأولى”، الـثلاثمئة شخصٍ بين أجدادٍ وآباءٍ وعمومٍ وأخوالٍ، وأخوةٍ وأبناءٍ وأبناءِ عمومةٍ و أبناء أخوالٍ، وأحفادٍ إلخ إلخ ..
ناهيكَ عن الدرجةِ الثانية والثالثةْ
وترى بعضهم حينَ يتحدثُ عن عائلتِهِ ، يستخدمُ كلمةَ ” نحنا جنسنا “
أجل… وعيهُ بإنتماءهِ لايزال خاماً وغريزياً إلى حدِّ أن يقول ” جنسنا يختلفُ عن جنسِ بيتِ فلان”
لا كنايةَ بمهنٍ أو جامعاتٍ أو أشكالٍ أو ميّزاتٍ أو عوائلَ أو أيٍّ من التصانيفِ الحديثةِ التي تضعُ الذّواتِ ضمنَ مسمّى وتصنيفْ وشخصيةْ
لا أسماءَ حتّى …. ربما شِيفراتٌ صوتيّةٌ للتّنبيه لحظةَ الحربْ
تخيّلْ !! حين ينشبُ عراكٌ بين طفلينِ من “جنسينِ مختلفين”، عند تلك العوائلِ، يشاركُ كافةُ أفرادِ العشيرتين، صغاراً وكباراً وشِيّباً في العراكْ
ولا يحتاجُ الأمْرُ لتنادي الجميعَ إلّا أن تصرخَ ثلاثة أو أربعةِ أسماءٍ دون ذكرِ كناياتهم، لتحصلَ على مئتي شخصٍ بجانبك على الأقلِّ، لا أسئلةَ لا استفساراتْ ، ينخرطونَ في العراكِ مباشرةً ..
…………………………
هو الخوفُ ربما، الخوفُ القديمُ القطيعيُّ المتناقلُ المتوارثُ من أيّام الغابةْ
ربّما كانتْ أوّلُ حربٍ في الغابةِ بين أجناسِ وقطعان البشرِ في مرحلةِ الصّوتياتِ، فيما قبلَ الّلغةِ ، قد دفَعتْ زعيمَ كلَّ عشيرةِ، ولسهولةِ مناداةِ الجميعِ لحظةَ الحربِ، أن يقسّمهمْ إلى ثلاثِ مجموعاتٍ، على سبيلِ المثالْ : واحدةٌ يسمّيها “اممم”، الأخرى “ناااا”، الثالثة “ساااا”
ويوزعُ عليهمْ قبلَ الغزو، بحركاتِ اليدِ والإشاراتِ، مَهامهمْ العسكريّةِ في الحربِ، تلك المهامُ التي كانتْ لا تزالُ بسيطةً جدّاً : مخالبْ، أنيابْ، عصيّ، خناجرُ ورماح من حجرْ
مُقدّمةْ مَيمنةْ مَيسرةْ ” أممم” … “نااا” …. ” ساااا”
…………………………
ومع الحربِ بدأت الحياةُ، حياتُهمْ بـ “التّطورِ ” باتوا بحاجةٍ أكثرَ إلى اللّغة، لغةٍ تمكّنهمْ من القوّة والتخطيطْ، والتّفوقِ، ثمّ الاكتشافِ فالاختراعِ فالإخضاعْ
ثمَّ سلطاتٌ مبنيّةٌ من وحي كلِّ ذلكْ، لخدمةِ بلاطِ الزّعيمِ .
والزعيمُ لهمْ، من نسلٍ معيّنٍ يتبعُ لجدٍّ أوّلٍ، كانَ الأقوى جسدياً بينَ أقرانِه في أوّلِ حربٍ خاضوها مع قطيعٍ آخرْ، وله أسطورتهُ في “كيفَ عاشَ ” و” كيفَ ماتْ ” هو فكرةٌ محبّبةٌ تجيبُ عن أسئلةِ الكونِ ومخاوفهِ ، وتعريف بسيطٌ آمنٌ لــ “الله”
واستمرّ نسلهُ القويُّ بالزعامةْ
لكن مع الزّمنْ .. باتَ الزّعيمُ، جيلاً بعد جيلٍ، يصبحُ أضعفَ جسدياً نتيجةَ امتناعهِ مباشرةً عن خوضِ الحروب بنفسهْ، “الأذكياءُ ضعافُ البنية” بدأوا بالّلعبِ بعقلهِ، بدأوا بإقناعهِ بالجلوسِ وإصدارِ الأوامرِ والمراقبةْ، بدأوا بقتلِ “الإله الجسدْ” الفاني، لصالحِ “الإلهِ الفكرةْ” الخالد وما يتطلبهُ من أدواتٍ وجيوشٍ وتلفيقٍ سُمّي لاحقاً “دين”
الجلوسُ الطويلُ للزعيم، على الكرسيِّ، لأجيالٍ، بدأ يغيّرُ الجيناتِ والمورثّاتْ، أصبحتِ العضلاتُ تَضمرُ والكرشُ يكبرْ، لتنمو على حسابها فصيصاتُ وتلافيفُ الدّماغِ ، لتشكّل شيئاً فشيئاً ما بات يُسمّى” الحنكة والذكاءِ العسكرييّن” أو بالعامية “ولدَنة الحرامْ”
التي بدأتْ تُرضخُ تحتَ سلطتَها ولأجلها كافّةُ أنواعُ الذكاءاتِ الأخرى ” الذكاءُ العاطفي، الذكاءُ الاجتماعي، الذكاءُ الفنّي، الذكاء الحسّي”
ولا يقل لي أحدٌ أننا لولا اللغةِ لما كنّا كتبنَا فكراً أو أدباً أو فلسفةً أو تاريخ .
طيّب… قبل أول حربٍ و لغةٍ، هل كنّا بحاجةٍ لكل مهزلات الفكر والأدب والفلسفة إلخ إلخ، ألَمْ يكنْ وعينا بالكون وأنفسنا بسيطاً ومقتصراً على بعض الحاجاتِ الغريزيةِ المتاحةِ للجميعْ
التاريخُ وحركتهُ كانَ موجوداً في كتابٍ جميلٍ موحّدٍ اسمهُ الطبيعةْ .
والطبيعةُ لا تتغيرُ كظواهرْ، وعيُنا بها ومن ثمَّ محاولةُ إرضاخها هو ما تسبّبَ لاحقاً بفجيعةِ “التّاريخِ وأهواءهْ”
…………………………
ولا تزالُ بعضُ شعوبِ العالمِ حتّى الآنَ تعيشُ بلغاتٍ، أو ربما الأفضلُ أن نقولَ بلغوٍ صوتيٍّ لا يتجاوزُ بضعَ عشراتٍ من التركيباتِ الموسيقيةِ البسيطةْ
بساطةُ حياتهمْ لا تحتاجُ ولا تحتملُ أكثرَ من ذلكَ، لا حاجةَ كثيراً للأسماءِ، لا حروبَ يخوضُونها، لا تعقيداتِ فلسفةٍ وعلومٍ وآدابٍ وأديانْ وصناعاتْ وتكنولوجيا وعمرانْ ..
حتّى ما يدعى ” الله ” هو بالنسبةِ لهمْ شيءٌ غريبٌ يسكنُ السماءْ وعليهم النظرُ إليهِ كلَّ يومٍ لبضعِ لحظاتٍ، مع مجموعةِ أصواتٍ لا يكترثونَ إن فهمها أو لا، وعندَ الكوارثِ الطبيعية يراجعونَ ذواتهم إن كان أحدهم قد قامَ بتصرفٍ “عاقلٍ” لا غريزيّ، تصرفٍ شاذٍّ، مدفوعاً بنزعةٍ شخصيّةٍ للملكيةْ
– تقصدُ هم قطيعٌ لا فردانيّةَ فيه
– وهل نحنُ أكثرَ من ذلكْ ؟
…………………………
كنّا نسمع الموسيقا في كل أصواتِ مكوناتِ الكونِ اللّغزِ المُدهشْ
كلُّ يومٍ
صباحٍ
مساءٍ
لحظةٍ ، فيهْ
كلّ مّرةٍ كأنّها الأولى
أصوات العصافير مع “فنجانِ” ماءِ ندى صباحاً، حلّ محلّها فيروز والقهوة، سيمفونيات الصّراصيرِ والذئابِ والحشراتِ الليليةِ مع أعشابٍ لها مفعولُ الأفيونِ، تلاشتْ لصالحِ أم كلثوم وأركيلةِ التّنباكْ
…………………………
الرسوماتُ واللوحاتُ والأشعارُ والغناءُ والرقصُ والمسرحُ والسّينما، هي تخيّلاتُ النوستالجيا الدّفينة لمُبدعِيها، إلى كوكبٍ كانَ يوماً ..
اعترافٌ مؤلمٌ بأنّنا كنَّا نَحيا يوماً .. في معرضِ شاسعٍ لجميعِ أنواعِ الفنونِ اسمهُ الطّبيعةْ
خسرناهُ .. خسرناهَا .. ثمَّ خسرنَا كنتيجةٍ جتميّةٍ لذلكْ
طبيعتَنا كجنسٍ بشريّْ
…………………………
ثمَّ حُرّمَ شيئاً فشيئاً كلُّ ما يُذهبُ العقلَ، العقلَ الجبانَ الذي يقولُ لكَ، لا بأسَ، ولا مشكلة، ويحقُّ للحاكمْ وهذه إرادةُ الله …إلخ
ثمَّ حُرّمَ كلُّ ما يحرّضُ الحسَّ :الغناءُ الرسمُ النّحتُ الرقصَ إلخ إلخ ،
الجنسُ
حتىّ الجنسُ باتَ فعلاً عقلياً، يُمارسُ ضمنَ قوالبَ وأخلاقياتٍ تختلفُ من جماعةٍ “دينية قومية “، وأخرى، وفي الفراشِ يسقطُ كلُّ هذا.. نتأوّهُ ونعوي جميعاً بنفسِ الطّريقةْ
سُلبتْ إرادتنا التي هي في الأصلِ، مجموعةُ تصرّفَاتنا الحسّية والجسديةُ التي تحرِّكها منظومةُ غرائزنا البدأئيةْ
ذواتُنا
…………………………
ولم ينجُ من كلِّ هذا، ولو بنسبةٍ صغيرةٍ إلّا أمّهاتُنا..
اللواتي حينَ تتشابهُ أسمَاؤنا، نُكنّى غريزياً بهنَّ
وربما يعودُ ذلكَ، لأنهنَّ لازِلنَ يُمارسْنَ فعلاً أوليّاً خاماً لم نستطعْ إخضاعهُ أو صناعتهُ حتّى الآنْ
الولادةْ
تعليق واحد
تنبيه المشاركة تخيّلاتٌ في الشعوبِ واللغةِ وصناعةِ الحرب – فَجْوَةْ
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.