أنا موجوع. يدي تُشوى الآن فوق ماسورة الرشاش. لا أستطيع سلخها عنه، لا أعرف لماذا تسخن هذه الماسورة مثل قسطل المدخنة على سطح بيتنا هناك في ضيعتي “أم الزيتون”…
هناك، كنت أحشر جسدي الضئيل بين طيور الحمام المتكومة حول المدخنة أيام البرد، أنثر بين أقدامها بقايا طعامنا، وأفرح بوعد أمي أن الله لن يحرقنا لأننا لا نرمي بقايا الطعام في الزبالة.
لكنّ يدي الآن تحترق، ولا أعرف أين وقعت نظّارتي… نظارتي التي أبغض، والتي لا يبتعد زجاجها عن زجاج عيني إلا حين أركنها لصق مخدتي وأنام. اختفت عيناي خلف عدساتها السميكة منذ دخلتُ المدرسة، ومن يومها، وبعد أول عراكٍ لي مع رفاق الصف، صار لقبي: ” أبو كزلك كعب الفنجان”. نسي رفاقي اسمي في قيد النفوس، ثم شاركهم أخوتي وجيراننا وأقاربنا نسيانهم البليغ، وتضامنوا جميعهم على مناداتي: أبو كزلك كعب الفنجان… في صفي الثاني طبطب على كتفي أستاذنا اللطيف: أنت أغبى من جميع إخوتك. بل أنت أغبى طالبٍ رأيته في حياتي. صارت المدرسة نكبة حياتي الصغيرة. صرت أهيم في الطرقات إلى أن ألمح التلاميذ يخرجون من بوابتها عند الظهر، فأعود مثلهم إلى بيتي. حين وصل الخبر إلى أبي أخذني لأتعلم عند الكومجي، وعند النجار وعند الطيان، وعند الخباز؛ وخرجت مطروداً من عندهم جميعاً. قالوا لأبي: أبو كزلك كعب الفنجان لن يفلح في تعيير الدواليب ولا في تصفيف الأخشاب ولا في حفّ الصدأ عن الحديد، ولا في عدّ أرغفة الخبز… لم يعد أمام أبي سوى أن يأخذني إلى أرض كرومنا البعيدة. صرت أفيق مع الفجر أتلمّس نظارتي، أشتُمها ثم أبوسها وأرفعها إلى عيني، وأمضي لنكش الأرض… أرقب أصابعي كيف تكبر أو تصغر لو قرّبتها من عينيّ أو أبعدتها عنهما، أضحك قليلاً، أفزع قليلاً، ثم أعود إلى النكش، أو أتلهّى باستراق النظر إلى الفلاّحة الصغيرة تنكش الأرض مثلي في الكرم القريب، وتتطلع إليّ من حينٍ لحين، ولا تبتسم. صارت روحي تزهر على مهلها… مرّةً مع نظرات جارتي، ومرةً مع المواسم، وصارت نظارتي تثخن على مهلها بعد كل فحصٍ طبيّ.
آخر فحص لي كان منذ أيام، حين أكملتُ عامي الثامن عشر، وصرت أبصر: 1/10 في عيني اليمين، و2/10 في الشمال، وتبلّغتُ للالتحاق بخدمة العلم. حملت هويّتي ووثيقتي الطبية ورحت إلى شعبة التجنيد. استلمتْها مني السيدة (النقيب في الجيش) التي ترضع ابنها خلف مكتبها العريض. قلت لها: اعفيني يا سيدتي الفاضلة، بموجب هذه الوثيقة، من خدمة العلم. قالت لي: أبعد وجهك الآن عن زجاج مكتبي، وخذ وثيقتك التي لن تنفعك، واستلم هويتك غداً من دمشق.
أنا لم أسافر يوماً إلى الشام. قضيت أعوامي على مهل ليس لي ما أستعجل الوصول إليه ولا الخروج منه؛ في دمشق أصعدوني إلى الباص المستعجل إلى إدلب. وفي إدلب أصعدوني إلى سيارة الزيل المستعجلة نحو القرى التي لم تعد خضراء، وأنزلوني عند حاجزٍ مع رشاشي الجديد، وتمنوا لي النصر على المسلحين. هناك لم ألحق أن أجوع أو أبرد. أقمت يومين قبل أن يطلّ المسلحون، ولا أعود أميّز من أين يأتي كل هذا الرصاص، ولا أعرف كيف أتلمس الزناد بسبابتي اليمنى، ولا كيف أصوّب نحوهم… رفعتُ يدي اليسرى، بالحركة التي فعلتها آلاف المرات لأضبط ارتكاز نظارتي على أنفي الكبير؛ فإذا بها ليست هناك. أنا لا أذكر متى ولا كيف طارت من قاعدتها الوحيدة، كيف خانتني، أو ربما دفعتها عني شظيةٌ آثمة… صار الأمام والخلف سواء، والضوء والدخان سواء، النور والنار سواء…
يدي تُشوى الآن في حرارة الأنبوب. لا أستطيع سلخها عنه، ولستُ متأكدا إن كنتُ أطلقت رصاصة أو خمساً أو أكثر، أو إن كانت أصبعي اهتدت إلى الزناد أم لم تهتدِ… أعرف فقط أنني الآن بائسٌ وموجوعٌ ووحيد: كيف صرتُ هنا ولم أودع امي ولا أبي ولا إخوتي الأربعة الأذكى مني، ولا سور المدرسة الذي ظللت خارجه لأنني لم أعد أطيق أن أسمع كعب الفنجان ألف مرة أخرى…ولا الأرض التي أحببتها أكثر مما بغضت نظارتي، ولا أعرف إن كان هذا الحرق الشديد الألم في يدي جاءني من إخوتي على الحاجز أم من أعدائي المسلحين.
أذكر أنهم في شعبة التجنيد قالوا لي: كلنا للوطن، عمياناً كنا أم مبصرين…يدي تحترق الآن كرمى للوطن، البقعة الحمراء على صدري فداءٌ لضيعتي أم الزيتون… ووطني الآن، هنا على الحاجز في إدلب، يعفيني من عذاب كعب الفنجان، من انتظار أن تبتسم لي يوماً ما تلك الفلاحة الصغيرة في الكرم القريب، من أن يخلط بصري الضعيف بين الأخوة الأصدقاء والأخوة الأعداء…
هيه… أنت يا أخي القريب مني ابحث معي عن نظارتي. لو لقيتها؛ سأرفعها إلى عيني، وأعتذر منها، وأحدّق عبرها في صورة السماء، في شكل هويتي العسكرية، في صورة أهلي مبلولةً بدمي في جيب قميصي العسكري، ثم أمضي بسلام ألحق يدي المشوية لننام طويلاً هناك وسط الحمائم قرب المدخنة…
الصورة: مقطع من تشكيل لمنيف عجاج
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.