علي مصطفى الدرزي
وقعُ ارتطام المطر على سقفِ التوتياء الأنيق مثيرٌ للارتباك، يعيد إلى ذاكرتي صوتَ الرّصاصِ المُطلقِ بلا هوادة في تشييعِ شهيدٍ ما، إذ يُطلَق الرّصاصُ تعبيراً عن الحُزن، كما الفرح، كما الخيبة. يُطلقُ في الحرب، وفي السلام. إثرَ موت إبن «الحاج رضوان» أو «سمراء النيل».
نسمةٌ باردةٌ تداعبُ الأمعاء الدقيقةَ والأخمصينِ العاريين. أكرهُ اللونَ الأخضرَ المسودّ لبقايا خيطان الجوربِ تحتَ أظافر قدميّ، كما أكرهُ صورة الرحم المنتفخ لإمرأةٍ على علبة سجائري. أطفئُ سيجارتي من منتصفها، دونَ إتلافٍ.
..
في الطابور الطّويلِ أمام باب المخبز الآلي يتجاذبُ أربعينيّان أطرافَ الحديث، من سياقهِ يبدو جليّاً أنّ أحدهما موظّفٌ حكومي والآخر حرفيّ من نوع ما. يثرثر الموظف طويلاً عن أبنائه الثلاثة وتكلفة القرطاسية في هذه الأيام السوداء، بينما يهزُّ الحرفي رأسه بين الفينة والأخرى علامةً لموافقته، ثمّ فجأةً يأخذ الحديث منحىً مغايراً ليصبحَ عن المبالغ التي قد يوفّرها المرء بشراءِ المواد الغذائية من النازحين.
النازحون الذين تراهم في الحياة الواقعية يختلفون عن الذين يظهرون في التلفاز وعلى الإنترنت؛ إذ أنّهم في الحياة الواقعية يبدونَ أكثر صخباً وشغباً، و أقل طمأنينةً تجاه النّاس، السيارات، شجر السّرو، الطّوابير، ووقع المطر على أسطح التّوتياء الأنيقة.
..
رغمَ جاذبيّة صوت المنشد ورخامتهِ؛ صوتُ الّلطميّات الشيعية من السيارات منفرٌ جداً، ارتطامُ الكفّ الأيمن بالنصف الأيسر من الصّدر مؤلمٌ للمشاهدِ أكثر. يعيدهُ، غير قاصدٍ، عقليَ الباطن عند سماع صوت الرّعد. أصعدُ الرصيف بتأنٍّ، الرصيف اختراعٌ جميل، الرصيفُ يعطيني شعوراً بالدونية تجاه كل الأيديولوجيات في هذه البلاد المنحوسةِ كجلمودِ صخرٍ خطّه السلُ من علِ. لا أستطيع تخيل بلاد دون أرصفة.
..
يعودُ صوتُ المطر قويّاً ولئيماً.
لطمٌ،
بكاء،
ثيابٌ قذرةٌ ممزّقة،
أكياسٌ من المعكرونة والعدس،
ثورةُ أنثىً بالأبيض والأسود،
أعلامٌ صفراء،
بلادٌ بلا أرصفة،
أتكوّرُ على نفسي في زاوية السّريرِ و أعيدُ إشعال سيجارتي المُطفئةَ.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.